انتشرت الاستدانة والشراء بالأجل في كل البلاد العربية خلال السنوات الماضية، وسيطر «السّفه» في الاستهلاك وغياب ثقافة الادخار على سلوك عدد متزايد من محدودي الدخل، ما أدى إلى شيوع الاستدانة، والتعثر في سداد الديون للبنوك والمؤسسات المانحة للقروض، ما عرّض بعض المستدينين لمشكلات وأزمات وعقوبات نتيجة العجز، أو التهرّب من تسديد الدين.
لذلك ارتفعت أصوات كثير من علماء الدين، وخبراء الاقتصاد، والمعنيين بالمشكلات الأسرية، للتحذير من الإفراط في الاستدانة، والشراء بالأجل من دون ضرورة، تجنباً للمشكلات والأزمات الناجمة عن ذلك، وطالب هؤلاء بحملات توعية، شرعية وقانونية واقتصادية وأسرية، بمخاطر الاستدانة من دون ضرورة حقيقية.
والتساؤلات التي تفرض نفسها هنا: متى يجوز للإنسان أن يستدين؟ وما هي الضوابط الشرعية للاستدانة؟ وهل يجوز الشراء بالآجل (التقسيط) من دون حاجة؟ وما حكم الشرع فيمن يستدين ويماطل في سداد ما عليه من ديون؟
بداية، يؤكد العالم الأزهري د. عباس شومان، الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، أن الله سبحانه وتعالى، قسّم الأرزاق بين الناس لحِكم جليلة، وأطلق لعباده ساحة الكفاح والكدّ لتحسين أرزاقهم، والعمل على زيادة أرزاقهم، بكل ما هو حلال من الأنشطة ومجالات العمل المختلفة، وعلى الإنسان الذي يسعى ويكدّ من أجل تحسين رزقه أن يرضى بما قسمه الله له، ولا يفكر في الكسب الحرام، لأن نهايته سيئة، والله سبحانه وتعالى لا يبارك في حرام.
الاستدانة عند الضرورة.. والشراء بالأجل عند الحاجة فقط
ويضيف د. عباس شومان «تفاوت الأرزاق بين الناس إرادة إلهية، وكل ما ينبغي أن يؤمن به الإنسان أن يدرك أن رزقه مضمون، فالله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»، لكن التفاوت في هذا الرزق هو إرادة الله في خلقه، فالله سبحانه وتعالى جعل عباده متفاوتين في أرزاقهم تفاوتاً له فيه الحكمة البالغة، والآيات الباهرة، ودليل ذلك قوله سبحانه في محكم التنزيل: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً»، وكما في قوله تعالى: «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ». لذلك يجب أن يرضى الإنسان ويقنع بما قسمه الله له، وأن يسعى لتدبير معيشته والاستغناء عن مد يده لغيره بطلب العون، أو الاستدانة. لكن للأسف، بعض الناس لا يقنع، وبعضهم لا يحسن تدبير معيشته وفق ما رزقه الله من مال، فينفق أكثر مما يأتيه فيلجأ إلى الدَّين بسب سوء تدبيره، وهو في غمرة الحياة غافل عن الآثار الوخيمة للدين. فالدَّين حمل ثقيل، وهمٌّ عظيم، حيث استعاذ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين دعا بهذا الدعاء الجامع: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلَبة الدين وقهر الرجال).
فالدين همٌّ بالليل وذل بالنهار، كما يقول المثل الشهير، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأنه: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين»، وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان إذا أُتِي بجنازة وعلى صاحبها دين لا يصلي عليه حتى تقضى عنه ديونه، أو يتحمّلها أحد الأحياء، فلما فتح الله عليه وجاءه المال كان يقضي عن موتى المسلمين، وهذا السلوك النبوي الكريم يدل على خطورة الدَّين».
لذلك يؤكد د. شومان أن شعار الإسلام دائماً: (الإنفاق على قدر الكسب)، فمن لا يملك المال الوفير لا يجوز له الاستدانة من أجل شراء سلعة تفوق إمكاناته، وبالتالي يعيش الإنسان بعيداً عن الديون التي تثقل كاهله، وتلحق به الأذى، المادي والنفسي، نتيجة تراكم الدّين، والتعثر في السداد.
الشروط والضوابط الشرعيّة للاستدانة
من جهته، يبيّن د. سعد الدين هلالي، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر يعرّفنا بالضوابط الشرعية للاستدانة «الإسلام وضع جملة من الضوابط الشرعية للاستدانة، تأميناً للمتداينين- المدين والدائن- من خطر الدين ومغبّته، أهمها:
- أن يكون التوجه إلى الاستدانة على سبيل الاستثناء، وليس على سبيل الاعتياد، فالشرع يؤكد على إشباع الحوائج بالكسب المشروع، والسعي المشكور، والله تعالى يقول «فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله»، ويقول سبحانه «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلّا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم».
- أن يكون التوجه إلى الاستدانة عند الحاجة، وليس في حال السعة لمجرد إمكانها، لأن الاستدانة نوع مسألة، والمسألة لا تجوز إلّا لأصحاب الحوائج، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ـ أو سداداً من عيش ـ فما سواهنّ من المسألة يا قبيصة سُحت يأكلها صاحبها سُحتاً».
- أن يتم توثيق الدين منعاً من النزاع في المستقبل، وهذا التوثيق على سبيل الاستحباب عند جمهور الفقهاء، وعلى سبيل الإيجاب عند بعض الفقهاء، استدلالاً بعموم قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل».
- أن يكون المدين كريماً في الوفاء، ويكون الكرم بعدم المماطلة كما يكون بالإحسان في القضاء، يقول سبحانه وتعالى: «وأداء إليه بإحسان»، وجاء في الحديث الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مطل الغني ظلم»، ورُوي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استلف من رجل بكراً، «الفتي من الإبل»، فقدمت عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بِكره، فرجع أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً بعيراً رباعياً، «ما بلغ ست سنين ودخل في السابعة حين طلعت رباعيته»، فقال صلّى الله عليه وسلّم «أعطِه إيّاه إن خير الناس أحسنهم قضاء».
ضوابط الشراء بالأجل (التقسيط)
ويرى د. هلالي أن (الشراء بالأجل) من صور الاستدانة التي شاعت في معاملاتنا المعاصرة، وينبغي أن يخضع لضوابط شرعية، فلا يجوز شرعاً شراء سلعة بالأجل والإنسان ليس في حاجة إليها، كما لا يجوز شراء تلك السلعة وأنت لا تملك مصادر دخل للوفاء بأقساطها.
ويبيّن «البيع بالأجل (التقسيط) هو مبادلة السلعة، أو الخدمة الحالة، بثمن مؤجل كلّه، أو بعضه، على حصص معلومة، تؤدى في أوقات معينة، وقد ظهر البيع بالأجل، أو كما يطلق عليه في بعض البلدان العربية بـ«التقسيط»، بهذا الشكل المنظم والشائع منذ حقبة طويلة من الزمن، ولاقى تشجيعاً من الحكومات المختلفة التي رأت فيه وسيلة لرواج منتجات المؤسسات الصناعية، والسلع التجارية، حتى تدخلت بإصدار القوانين المنظمة له بهدف حماية المتعاملين به. وفي العقود الأخيرة انتشر هذا النمط من البيع والشراء انتشاراً واسعاً في مشارق الأرض ومغاربها، بخاصة في السلع المصنّعة، والأجهزة المعمّرة، كالسيارات والأدوات الكهربائية والأثاث، وغيرها، بل وانتشرت ظاهرة التعامل بالتقسيط في السياحة، وفي أداء فريضة الحج، ومناسك العمرة، والسبب في ذلك يرجع إلى قلة السيولة النقدية مع كثرة المعروض من السلع والخدمات. ويرى بعض الفقهاء والاقتصاديين أن البيع والشراء بهذا الأسلوب يحقق فائدة مزدوجة، فهو يفيد البائع بزيادة مبيعاته مع ضمان دخل دوري له، كما أنه يفيد المشتري في الحصول على السلعة التي يحتاج إليها من دون أن يغرم ثمنها الكامل في الحال، وقد لا يتوفر معه هذا الثمن».
وعن مشروعية البيع بالأجل، يشرح أستاذ الشريعة الإسلامية في الأزهر «هناك اتجاهان للفقهاء في هذه المسألة، بعضهم يرى فيه معنى الربا فيحظره، والآخر يرى مشروعيته وأنه مباح شرعاً، ولا حرج، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، وقال به فقهاء المذاهب الأربعة، وهو ما انتهى إليه قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي. والواقع أن العديد من علماء الشريعة قالوا بمشروعية بيع التقسيط لأنه يحقق مصالح البائع والمشتري، ويؤدي إلى الرواج التجاري الذي يحتاج إليه المجتمع، وقد جاءت الشريعة برفع الحرج وتيسير حوائج الناس. لكن هناك تحذير من جموع العلماء والاقتصاديين من الإسراف في التعامل بالتقسيط، لما يكتنفه من مخاطر للمتعاملين فيه، خاصة هؤلاء الذين يهوون الشراء بالأجل من دون ضرورة لذلك».
الشراء بالأجل عند الحاجة.. بلا استغلال
د. محمد برس، أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، يؤكد أن الشراء بالأجل يخضع لضوابط شرعية ينبغي أن تحكم البائع والمشتري بالأجل، ويقول «الشراء إلى أجل مباح شرعاً عند الحاجة إليه، وفق ضوابط وقواعد شرعية تمنع استغلال البائع للمشتري. فالفارق الجوهري بين البيع المنجز والبيع بالأجل أن جزءاً من الثمن من البيع بالأجل، أو كل الثمن، يكون دَيناً على المشتري يلتزم الوفاء به عند حلول موعد الأقساط».
ويواصل «بما أن الإسلام لا يحبذ الاستدانة، فلا ينبغي أن يلجأ الإنسان إلى الدين إلا مضطراً، ولسد حاجة ضرورية، وعليه أن يبيّت النية على السداد بقدر ما يستطيع، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله».. ومن هنا، فالشراء بالأجل يكون عند الضرورة، ومن يشتري بالأجل ويماطل في السداد آثم شرعاً».
احذروا المبالغة في الشراء بالأجل
ويرفض أستاذ الاقتصاد الإسلامي في الأزهر أسلوب بعض الناس الذين يدمنون الشراء بالأجل «إذا كان الفقهاء أباحوا هذا النمط من البيع والشراء فذلك من باب التيسير على الناس للحصول على بعض ما يحتاجون إليه، ولا تسمح ظروفهم المادية بشرائه بثمن منجز، فيستعينون بهذا النمط من البيع والشراء.. لكن لا يجوز المبالغة في الشراء بهذا الأسلوب لأن هذا يجعل الشخص المبالغ فيه واقعاً تحت طائلة المديونية معظم فترات حياته، ما يكاد ينتهي من الوفاء بما عليه من ثمن ما اشترى بالتقسيط، حتى يعاود شراء شيء آخر بهذا الأسلوب».
احذروا الحملات الإعلانية التي ترغّبكم في الشراء بالأجل من دون حاجة حقيقية
ويحذر د. برس الجماهير العربية، خاصة محدودي الدخل من الوقوع تحت تأثير الحملات الإعلانية للشركات الكبرى التي تشجع على الشراء بالأجل، وتحقق من وراء ذلك مكاسب طائلة على حساب مصالح محدودي الدخل «في كل البلدان العربية حملات إعلانية مكثفة تروّج للبيع بالأجل بمختلف الأساليب، وتغري المحتاجين لاقتناء سلع وأجهزة كهربائية وسيارات وعقارات، وأحياناً رحلات ترفيهية، على أن يقسّط الثمن بالأجل بعد إضافة فوائد ورسوم مبالغ فيها، وعلى كل إنسان أن يفكر جيداً، ويدرس احتياجاته، الآنية والمستقبلية، قبل التورّط في شراء سلعة لا يحتاج إليها، أو يبدل سيارته بأخرى حديثة من دون ضرورة.
فهذه السلع التي يتطلعون إلى اقتنائها لكنهم لا يملكون القدرة على دفع ثمنها حالاً، تأتي بسبب أساليب الإغراء التي تقدمها هذه الشركات، فتخلق لدى هذا الشخص حاجة وهمية إلى هذه السلع، لم يكن يفكر فيها، لو لم تكن معروضة بهذا الأسلوب الذي لا يكلفه الآن إلا الحصول على هذه السلع من دون مقدمات، وبآجال طويلة. وشبيه بهذا الأسلوب أيضاً، الإغراءات التي تقدمها البنوك للحصول على قروض منها، فيقدم الناس على الحصول على هذه القروض وإنفاقها في شراء سلع وخدمات ربما لم يكونوا يفكرون فيها، لو لم تتيسّر أمامهم سُبل القرض. ففي الحالتين تم خلق حاجة لدى المستهلكين، وعملوا على سدها بالاقتراض من البنك، أو الاستدانة من الشركة التي باعت لهم بالأجل».
وختاماً، يشدد د. برس على ضرورة الوفاء بالديون، سواء أكانت في شكل قروض نقدية، أم سلع استهلاكية «نذكّر الجميع بقول الرسول الكريم «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى سمحاً، إذا قضى»، ومن السماحة في جانب المدين المسارعة إلى السداد، وتحرم المماطلة من جانب المدين في السداد، فهذا ظلم، كما قال صلّى الله عليه وسلّم «مطل الغني ظلم».