05 فبراير 2024

"انصحوا.. ولا تفضحوا".. علماء المسلمين يؤكدون آداب وشروط النصائح الدينية والأخلاقية

محرر متعاون

لم يعطِ الإسلام أحداً وصاية على أحد. حتى أعظم خلق الله أجمعين، وهو رسول الإنسانية الخاتم، صلى الله عليه وسلّم، أخبره ربّه أنه مبلّغ فقط عن الله، ولا وصاية له على أحد، والقرآن الكريم حسم هذا الأمر بكل وضوح، من خلال العديد من النصوص القرآنية، من بينها قول الحق سبحانه: «فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر»، ولذلك حكى القرآن على لسان الداعية الأول في الإسلام صلوات الله وسلامه قوله:«إن أنا إلا بشير ونذير».

وفي حياتنا المعاصرة سلوكات خاطئة، وتجاوزات لا تتوقف باسم الدعوة والتوجيه الديني، ومواجهة التجاوزات السلوكية والأخلاقية، وهذه الأخطاء والتجاوزات لا يقع فيها عامة الناس فحسب، بل يقع فيها بعض الدعاة الذين يمارسون أساليب تبتعد كثيراً عن منهج الإسلام الصحيح، في الدعوة والتوجيه الديني.

لذلك التقينا بعدد من علماء ودعاة الإسلام، لنتعرف منهم إلى الأسلوب الصحيح للتوجيه الديني والأخلاقي، ومواجهة التجاوزات السلوكية لبعض الناس.. وفي ما يلي خلاصة ما قالوه ونصحوا به:

لا وصاية دينية على أحد

في البداية يؤكد العالم الأزهري د. محمد الضويني، وكيل الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء، أن منهج الدعوة إلى الله، ومواجهة التجاوزات السلوكية والأخلاقية واضح كل الوضوح؛ ويقوم على كل خُلق طيّب، وكل سلوك قويم في التعامل مع الناس، حيث لا يجوز فرض وصاية دينية على أحد من أي نوع، كما لا يجوز إحاطة الناس بالظنون والأوهام، والجري وراء زلّاتهم، والتجسس عليهم، ورسول الله الخاتم، صلى الله عليه وسلّم، يرفع شعاراً يؤكد ما يجوز للداعية وما لا يجوز، فيقول: (انصحوا ولا تفضحوا)، ذلك أن النصيحة المخلصة تحقق أهدافها الدينية والإنسانية والأخلاقية، وقد تهدي المخالف، أو المتجاوز إلى طريق الحق والعدل، أما الفضيحة فقد تدفعه إلى العناد والمكابرة، والإصرار على المعصية، وبذلك ينتهي به الأمر إلى انحراف، وفساد أكبر ممّا هو عليه.

أخلاقيات الدعوة إلى الله لا تسمح لداعية بإرهاب المخالفين والمتجاوزين وفضحهم على الفضائيات أو فوق المنابر

ويضيف «تعاليم الإسلام لا تسمح لأحد، مهما كانت مكانته الدينية، أن يوجه اتهامات عشوائية يسيء بها إلى خلق الله، من دون أدلّة وبراهين، كما أن أخلاقيات الدعوة إلى الله لا تسمح لداعية بإرهاب المخالفين والمتجاوزين وفضحهم على الفضائيات، أو فوق المنابر، وإضفاء صفات منفرة عليهم، كما يفعل بعض من يتصدّون للدعوة والإرشاد الديني، فمواجهة مظاهر المنكر الظاهرة تتم بالنصيحة الصادقة، والكلمة الطيّبة، والموعظة الحسنة حتى تحقق النتائج المرجوة».

وهنا ينبّهنا العالم الأزهري إلى قيمة كبرى من قيم الإسلام العظيمة، وهي قيمة (الستر على المخطئين والمنحرفين)، وهذا الستر ليس تفضّلاً من أحد، لكنه مطلب شرعي، ذلك أن فضح الناس قبل محاولة إصلاحهم وتقويم سلوكهم بالحسنى ليس من أخلاقيات الإسلام، ولا من الأساليب الصحيحة للإصلاح الديني والاجتماعي.

احذروا الظنون والأوهام

ويشدّد د. الضويني على ضرورة أن تصفو النفوس، وتعلو على الظنون والأوهام عند تقديم النصائح والتوجيهات الدينية والأخلاقية، أيّاً كان مصدر تلك التوجيهات والنصائح، ويقول، الحق سبحانه يرسم لكل من يحث الناس على الفضائل ويواجه الرذائل الأخلاقية، منهجاً أخلاقياً قويماً يحمله قوله سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه، واتقوا الله، إن الله توّاب رحيم»

ولذلك لا ينبغي أن تترتب النصائح والوصايا الدينية على ظنون وأوهام، حيث لا يحلّ لإنسان أن يسيء الظن بإنسان آخر من دون وجود بيّنة، فالأصل في الناس أنهم أبرياء، ووساوس الظّن لا يصح أن تعرّض ساحة الأبرياء للاتهامات، لذلك يقول صلى الله عليه وسلّم: «إيّاكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».

ويوضح العالم الأزهري أن النهي عن سوء الظن يصاحبه في الأغلب، نهي عن التجسّس، وهو سلوك كثيراً ما حذّر منه القرآن الكريم، كما حذّر منه رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، لأن التجسس يعني غياب الثقة بالآخرين، ويدفع إلى عمل قلبي باطن، يتجسد في سوء الظن، فهما متلازمان، وهما من الرذائل السلوكية والقلبية التي حذّر منها الرسول، عليه الصلاة والسلام.

الستر واجب.. ولا تتّبعوا عورات الناس

من جانبها، تؤكد د. هند أحمد يوسف، أستاذة الإعلام في جامعة الأزهر فرع البنات، ضرورة أن يلتزم الداعية، أو الناصح والموجه بتعاليم الإسلام وأخلاقياته في توجيه الناس، ومحاولة هدايتهم، وتبيّن «تعاليم الإسلام وآدابه لا تسمح لأحد بالتجسس، وتتبّع عورات الناس حتى إن كانوا يرتكبون إثماً، ما داموا مستترين به غير مجاهرين، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم، يقول: «من ستر عورة فكأنما استحيا موءودة في قبرها».. بل جعل النبي عليه الصلاة والسلام، تتبّع عورات الناس من خصال المنافقين، ويروى أنه صعد المنبر ونادى بصوت رفيع: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم، فإنه من يتّبع عورة أخيه المسلم يتّبع الله عورته، ومن يتّبع الله عورته يفضحه، ولو في جوف رحله».

فالإسلام لا يقبل التلصص على حرمات الناس، ولذلك كان تشديد الرسول صلى الله عليه وسلّم، في تحريم الاطلاع على قوم في بيتهم بغير إذنهم، وأهدر في ذلك ما يصيب المطّلع على ما في البيوت من دون إذن من أصحابها، فقال: «من اطّلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حلّ لهم أن يفقأوا عينه».. كما حرّم أن يسمع حديثهم بغير علم منهم، ولا رضا، فقال: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة».

لا يجوز لأحد أن يحاكم الناس دينياً أو ينظر إليهم من خلال منظار أسود، فالأصل في الناس أنهم أبرياء

وتشدّد أستاذة الإعلام بجامعة الأزهر، على إدانة كل سلوك فيه تربّص بالناس «رسول الله صلى الله عليه وسلّم، دان سلوك المتربصين بالآخرين المتجسسين عليهم، ورفض سلوك هؤلاء الذين يتهمون الناس بالباطل؛ سواء أكانوا من الدعاة أم غيرهم من المعنيين بالإصلاح الاجتماعي. ولا يجوز لأحد أن يحاكم الناس دينياً، أو ينظر اليهم من خلال منظار أسود، فالأصل في الناس أنهم أبرياء، وليسوا متهمين، أو مدانين، أو مذنبين، أو متآمرين، من دون أدلة إدانة واضحة».

كما توضح د. هند أنه في أمور الدعوة والتوجيه الديني ومواجهة السلوكات المخالف لتعاليم الإسلام يغلب حسن الظن، ولذلك فإن مسارعة البعض إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، سلوك لا يقرّه الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلّم، حذر من كل ذلك.

فمن المبادئ الأخلاقية المهمة التي جسدها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في التعامل مع الناس إحسان الظن بالآخرين، وخلع المنظار الأسود عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم، يعلّم المسلمين حسن الظن، فقد جاءه رجل يقول «إن امرأتي ولدت غلاماً أسود- أي أنه يشك في سلوك زوجته- فقال النبي صلى الله عليه وسلّم له: هل لك من إبل؟ فقال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال هل فيها من أورق «يعني فيه سواد» قال: إن فيها لأورقا. قال فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: وهذا- أي ما ولدته زوجتك- عسى أن يكون نزعه عرق».

لا سكوت على منكر.. ولكن الستر إصلاح وتقويم

سألنا الفقيه الأزهري د. فتحي عثمان الفقي، عضو هيئة كبار العلماء وعضو لجنة الفتوى المركزية بالأزهر، عن حكم الشرع في فضح سلوك الستر لغير الملتزمين أخلاقياً، فأجاب «الستر على المسلم المتجاوز مطلب شرعي أيّاً كان شكل وحجم هذا التجاوز، وهذا لا يعني السكوت عن منكر، لكن الإسلام ينظر إلى الستر على أنه وسيلة إصلاح وتقويم، فلو ارتكب الإنسان مخالفة شرعية وجبت نصيحته ومحاولة تقويم سلوكه بالكلمة الطيبة، والنصيحة الصادقة، فالأخوّة الإسلامية تستوجب على المسلمين أن يكونوا متعاونين، ومتعاطفين، ومتآلفين، ومتحابين، يعين بعضهم بعضاً، ويستر بعضهم بعضاً، ويجعلون من حياتهم ينابيع بِرّ وخير تفيض على من حولهم، فإذا حل بأحدهم كرب أسرع الآخر إلى تنفيسه، وإذا رآه يحتاج إلى الستر ستره، أو يحتاج إلى المعاونة أعانه.

وهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من نفّس عن مسلم كربة نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، فثمرة ستر المسلم لأخيه المسلم في الدنيا هي أن يكافئه الله تعالى عليها في الآخرة، والجزاء من جنس العمل، ولكنها مكافأة أسمى وأكرم، وفي وقت تبلغ الحاجة فيه مداها.

ففي يوم القيامة لا تخفى أسرار، ولا يُكتم أمر، وتجد كل نفس ما عملت محضراً، ولكن الستر الإلهي يظلل كل من يؤمن به، ويظلل أولئك الذين ستروا عباد الله في الدنيا، فلم يتتبعوا عوراتهم، ولم يتجسسوا عليهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة».

واجب الإنسان أن يكفّ السارق عن جريمته وينصحه بإعادة ما نهبه وإن رفض أصبح واجباً أن يبلّغ عنه الأجهزة المسؤولة

ويوضح عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، أن ستر المخالف أو المتجاوز لحدود الله ليس سكوتاً عن منكر، أو صمتاً على معصية، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بحق من حقوق الله، وإنما المراد ستر عورته، والبعد عن فضيحته، والاجتهاد في نصحه، والحفاظ على حرمته وكرامته، وفي هذا صيانة لحقوق الأخوّة، وإفساح المجال أمام الفضيلة، والتضييق على الرذيلة، والمطلوب ألا نصمت ونستر وكفى، بل واجب المسلم مواجهة المنكر والمعصية بأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر بكل وسيلة يستطيع بها مقاومة المنكر، فإن استطاع أن يغير المنكر بيده فعل، وإن استطاع أن يغيره بلسانه فعل، وإلا فبقلبه.. كما جاء في الحديث «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».

لكن الأمر يختلف، كما يوضح د. الفقي، عندما يتعلق الأمر بارتكاب جرم يتعلق بحقوق العباد، كأن يسرق إنسان مال آخر، أو كأن يختلس مالاً، أو يسرق منقولات تتعلق بجهة عمله.. هنا يكون التصرف مختلفاً، ويكون واجب الإنسان أن يكف السارق عن جريمته، وينصحه بإعادة ما نهبه، فإن استجاب فبِها، ونعمت، ويكون الإنسان قاوم المنكر ومنع الجريمة، وإن رفض أصبح واجباً على الإنسان أن يبلّغ عنه الأجهزة المسؤولة في المجتمع، فالحقوق المتعلقة بحق العباد، أو حق المجتمع، أو حق مؤسسات الدولة، لا يجوز فيها الستر على المخالف، أو السارق، فالستر هنا مشاركة له في الجرم الذي ارتكبه.

كما سألنا عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: البعض يعتقد أن من واجبه كشف المخالفين لتعاليم الإسلام والمتجاوزين لحدود الشريعة، ولو أدى ذلك إلى فضحهم بين الناس.. فهل ما يعتقده هؤلاء صحيح من الناحية الشرعية؟، فأجاب «هذا اعتقاد خاطئ، فواجب المسلم عندما يرى مخالفات أو تجاوزات شرعية ينحصر دوره في تقديم النصيحة المخلصة، والتي تدخل في نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي حالة عدم الاستجابة يتحمل رافض النصيحة الذي يصر على المعصية نتيجة تصرفه المخالف للشرع، من دون أن يتحمل وزره الطرف الآخر الناصح له. وهكذا يتضح أن تعاليم الإسلام تشعّ إنسانية وعفواً ورحمة، ولا تقبل التشهير بخلق الله وتحث على الرفق بالمخالفين ونصحهم بإخلاص، وليس فضحهم وسط الناس».