مع حلول شهر رمضان المبارك، يظل السؤال الحائر داخل كثير من الأسر: هل يصوم أطفالنا أم لا؟ وما السن المناسبة لصومهم؟
في بعض الأسر يُقبل الأطفال على الصوم، بعضهم يستطيع تحمّل مشقته، وبعضهم لا يستطيع.. فكيف تتصرف الأسرة العربية مع هؤلاء الأطفال؟ وهل تترك أمر الصوم حسب رغبات أطفالها حتى ولو كانوا قادرين على الصوم ويمتنعون عنه؟ وهل يجوز إرغام الأطفال القادرين على الصوم؟
تساؤلات كثيرة تتطلب توجيهات دينية واضحة من علماء الإسلام حول صيام الأطفال.. وموقف الشرع من الآباء والأمهات الذين يجبرون أطفالهم على الصوم، وتحميلهم فوق طاقتهم، وكيف نرغّب الأطفال في عبادة الصوم، ونحببّهم بآدابه وأخلاقياته، ونجعلهم يعيشون أجواء وروحانية وسعادة هذا الشهر الفضيل.
تشجيع الأطفال على الصيام.. من حسن التربية
بداية، يؤكد د. نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر الأسبق، أن الإسلام اهتم بإعداد الطفل إعداداً إيمانياً جيداً، من خلال ربطه بتعاليم دينه، وتعويده على أداء العبادات الدينية منذ نعومة أظفاره، حتى ولو يكن مكلفاً بها شرعاً، ومن هنا كانت الدعوة واضحة لترغيب الأطفال في الصلاة والصوم قبل البلوغ، مع أن التكليف الشرعي بالفريضتين يبدآ من وقت البلوغ.
ويضيف «لكن ينبغي أن تدرك كل الأسر أن دين الله يُسر لا عُسر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولذلك جاءت الرخص الشرعية للمكلفين في أداء العبادات، وإذا كان من أهمّ ما ينبغي الاهتمام به والحرص عليه تعويد الأبناء على أداء فرائض، دينهم وتربيتهم عليها منذ وقت مبكر، كي لا يشق الأمر عليهم حين البلوغ، فلا ينبغي أن يكون ذلك بالإكراه، أو ممارسة العنف والحرمان معهم، كما تفعل بعض الأسر».
ويناقش عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ما يعتقده البعض من جواز ممارسة العنف مع الأطفال في حالة ترك العبادات قبل التكليف بها استناداً لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلمّ: «مُروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع»، ويقول «الإسلام لا يقبل أن تؤدى عباداته بالإكراه، سواء من جانب البالغين أو الأطفال، والضرب هنا مجرد تعبير رمزي عن غضب الآباء والأمهات من أطفالهم، وليس المقصود منه الإيذاء البدني على الإطلاق، وهو مثل ضرب الرجل لزوجته الناشز لا يهدف أبدا إلى إيذائها بدنيّاً، بل يهدف إلى إشعار الزوجة بغضب زوجها منها، ورفضه لسلوكها، وما فيه من نشوز».
صيام الأطفال.. بالترغيب وليس الترهيب
ويرى مفتي مصر الأسبق، أن تدريب الأبناء وتعويدهم على صيام شهر رمضان بالترغيب وليس بالترهيب من حسن التربية، ويبيّن «لا شك في أن شهر رمضان فرصة عظيمة ومناسبة فريدة يستطيع الأهل من خلاله أن يعوّدوا أبناءهم على أداء الصيام خاصة، وتعاليم الإسلام عامة، كالصلاة، وقراءة القرآن، وحسن الخلق، واحترام الوقت والنظام، ونحو ذلك من الأحكام والآداب الإسلامية التي ربما لا يسعف الوقت في غير رمضان لتعليمها وتلقينها».
ويواصل من الطرق المفيدة والمجدية في تعويد الأطفال على الصيام والإقبال عليه:
- التوجيه والإرشاد اللطيف، وتعليمهم أن الصوم أحد أركان الإسلام، وأن الله سبحانه وتعالى شرعه لفوائد دينية ودنيوية.
- تشجيعهم على المبادرة إلى صيام هذا الشهر الكريم.
- من المناسب أن تقترن هذه التجربة بمكافأة مادية تقدم في نهاية يوم الصوم، أو في نهاية الشهر الكريم، مع الأخذ في الاعتبار أن الطفل عادة يحب المكافأة السريعة، ما يدفعه ويجعله يستمر في ما يقوم به من تكاليف، إلى حين أن تصبح تلك التكاليف عقيدة وسلوكاً في حياته.
- ومن الطرق المفيدة هنا أيضاً، أن يقترن الصوم في حياة الطفل بذكريات مفرحة وسارة، ما يشجع الطفل ويحفزه على انتظار شهر الصوم بتلهّف وترقب، لما استودع في ذاكرته من أحداث مفرحة إبان فترة صومه الأولى».
ويشدد مفتي مصر الأسبق على أن القدوة الطيبة من الآباء والأمهات تلعب دوراً كبيراً في ترغيب الأطفال في الصوم، فكلما كان الأبوان والإخوة الكبار ملتزمين بالصوم وحريصين على آدابه، كان ذلك خير قدوة ومثلاً للصغار للسير على نهجهم.
حبّبوا أطفالكم بالصيام.. ولا عنت على صغير
د. سعاد صالح، أستاذة الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، تؤكد ضرورة تعويد الأطفال على الصيام منذ الصغر، وتوضح «يستحب حث الأولاد على الصوم للتمرين عليه إذا أطاقوه، أما إذا كان شاقاً عليهم فيأثم من يجبرهم على ذلك، فالله سبحانه وتعالى لا يقبل العنت، ولم يشرع لنا ما يسبب حرجاً، أو عنتاً لا على صغير، ولا كبير».
لذلك تشدد أستاذة الشريعة الإسلامية بالأزهر على أن الشرع يرفض سلوك بعض الآباء الذين يجبرون أطفالهم على الصيام «من شروط وجوب الصيام العقل والبلوغ، فلا إلزام ولا مسؤولية على من فقد عقله، ولا على من هو دون البلوغ. والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق».
لكن من التربية الإسلامية الجيدة- كما توضح الأستاذة الأزهرية- أن يشارك الأطفال في الصلاة والصيام وسائر العبادات، حتى يشبّوا على تقوى الله ورضوانه، ولذلك حثّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآباء والأمهات على ترغيب الأطفال في الصلاة فقال: «مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ،واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين»، وقد قال العلماء بجواز الحج للصبيان، وقد جاء في الحديث الصحيح أن امرأة رفعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبياً، وقالت: يا رسول الله.. ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر، وحج الصبي لا يسقط عنه الفريضة لأنه ليس مطالباً بها في هذه السن، ولكن في حجه تعويد له على أداء الفرائض والعبادات وهذا صقل لشخصيته الدينية، وتعميق للإيمان بأهمية عبادة الله في قلبه.
كيف ندرّب الطفل على الصيام؟
وعن السّن المناسبة لتعويد الطفل على الصيام، تجيب الفقيهة الأزهرية «لا يوجد سنّ محددة لبدء صيام الطفل، والأمر يختلف من طفل لآخر حسب طاقته البدنية، وإن كان بعض العلماء حدّدوا سن عشر سنين لبدء صيام الطفل على سبيل التدريب، فلا يمكن اعتبار ذلك قاعدة، فقد تكون السنّ مناسبة لبعض الأطفال دون البعض الآخر، لذلك فالمقياس الصحيح هنا هو (قدرة الطفل على الصوم)، فإن طاق الطفل الصوم وهو في هذه السن، فبها ونِعمت، وإن سبب له الصوم إرهاقاً بدنياً فينبغي الصبر عليه، وأفضل أسلوب هنا هو التدريج، بمعنى أن يبدأ الطفل بصوم بعض ساعات النهار، وكل بضعة أيام تزيد عدد الساعات، وتراقب الأسرة سلوكه، فلو وجدت عنده القدرة تركته يصوم اليوم كله. ومن الممكن في البداية أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، أو يصوم يومين ويفطر يوماً، حتى يتعود على الصوم الدائم برغبته ومن دون تأثير من الأسرة، وكل أسرة أدرى بقدرة أطفالها على ذلك».
وهنا تشدد د. سعاد صالح على ضرورة تعميق القيمة الإيمانية بفريضة الصوم في نفوس أطفالها لأن الصوم (سرّ بين العبد وربّه)، ولا يصح إكراه الأطفال عليه، وقد يكره الطفل على الصوم فيصوم شكلاً أمام الأسرة، ويختلي بنفسه ويأكل ويشرب، وهنا ضاع معنى الصوم الذي يؤديه الإنسان طمعاً في رضا خالقه، وحرصاً على الانتفاع بمكاسبه.
وتنتهى الأستاذة الأزهرية إلى أن تدريب الصغار على أداء العبادات وفرائض الإسلام «حق للأبناء على آبائهم»، فهذا يدخل في نطاق حسن تربية الصغار، وإعدادهم للحياة الفاضلة بالقدوة والسلوك الحسن، والتوجيه إلى معالم الرشد وقيم الأخلاق «واجب الآباء والأمهات أن يهتموا بشعائر الإسلام كلها، ويلتزموا بها التزاماً صادقاً وأميناً، ويدعوا أبناءهم لمشاركتهم هذه المناسبات الطيبة الكريمة، ولتعميق هذه القيمة التربوية أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أن نجعل بعض صلواتنا في بيوتنا، وقال العلماء: إن الأفضل في صلاة النافلة أن تؤدى في البيت حتى يشب الأبناء على صورة الخير والفضيلة. كذلك أوصانا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأن نقرأ القرآن في بيوتنا، كي تحفّها الملائكة، وتنزل فيها الرحمة، وينشأ الأطفال في رياض القرآن العظيم».
كونوا قدوة لأولادكم
وتحذّر الباحثة الأزهرية هند أحمد يوسف، الأستاذة بجامعة الأزهر، من أخطاء يرتكبها بعض الآباء والأمهات في التعامل مع أطفالهم في ما يتعلق بالعبادات الدينية، ومنها الصلاة والصوم، ومن تلك الأخطاء:
- إصدار أوامر للصغار بالصلاة والصوم من دون أن نشرح لهم أهمية وفوائد هذه العبادات لهم، فكل عبادة من عبادات الإسلام لها مقاصد شرعية، ولها مكاسب ومنافع عدة للإنسان، وشرح هذه المنافع والمكاسب للأطفال بأسلوب بسيط، يقنعهم بأهميتها لهم على المستوى الشخصي، إلى جانب كونها مفروضة.
- بعض الآباء والأمهات يضربون أطفالهم لإجبارهم على الصلاة أو الصوم، والطفل لن يُقبل على عبادة طواعية طلبت منه مصاحبة بالتهديد بالضرب، أو الحرمان من المصروف، أو غير ذلك من العقوبات التي تؤثر في نفسية الطفل.
- ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الآباء والأمهات في ما يتعلق بالعبادات، خاصة الصلاة والصوم، افتقاد القدوة الطيبة، فلا يمكن أن يكون الأب، أو الأم، مستهيناً بالصلاة والصوم ويطلب من أولاده أن يصلّوا ويصوموا.. وهذا يحدث للأسف في بعض الأسر، وهنا نقدم نصيحة للآباء والأمهات أن يتجملوا أمام أولادهم في ما يتعلق بالعبادات، ولا يجاهروا بعدم الصلاة أو الإفطار في رمضان نهاراً، من دون عذر شرعي، لأنهم بذلك سيكونون قدوة سيئة لهم.
وتشير الباحثة الأزهرية إلى خطأ آخر تقع فيه بعض الأمهات وهو الخوف على أطفالهن، ومنعهم من الصوم بحجة الخوف على صحتهم، أو بحجة أنهم لم يبلغوا السن التي يجب عليهم فيها الصوم، وهذا الخوف في الأغلب مبالغ فيه، فالصوم مفيد للكبار والصغار، ومكاسبه النفسية والصحية والإيمانية كثيرة، ومعظم أطفالنا في حاجة إليه لتعديل سلوكاتهم، الغذائية والترفيهية، وغرس معاني الإيمان في نفوسهم، فالطفل الذي يصوم ويرتكب سلوكات خاطئة، يكون من واجب الأسرة أن توجهه، وتشرح له أن سلوكاته، وما يرتكب من عنف مع أقرانه، أو ما يتلفظ به من ألفاظ نابية، لا تتفق مع أخلاقيات الصوم.
وهنا تشير إلى أن صوم الصغار القادرين على الصوم لا يؤثر بدنياً فيهم، كما قال خبراء التغذية، لأن النمو البدني والنفسي لدى الأطفال الصائمين يكون أحسن بكثير من غيرهم، وأنهم أكثر قدرة على تحمّل المسؤولية.. لكن هذا لا يمنع أن تراقب كل أمّ أحوال طفلها أثناء صومه، فإذا شعرت بإرهاقه الواضح، أو مرضه، وعدم تحمّله الصيام، ينبغي عليها أن تسارع إلى إفطاره.
وترى أن تدريب الأطفال على الصيام يجب أن يكون تدريجياً، ووفق الظروف الصحية للطفل، ففي شهر رمضان من كل عام، يرى الطفل والديه، والكبار من الأقارب والجيران والمدرسين، يصومون فيشعر بالغيرة والرغبة في تقليدهم، لذا يجب أن نعينه على ذلك، وننتهز هذه الفرصة بأن نشجعه ونتركه يصوم لمدة ساعتين مثلاً، ثم نزيد عدد الساعات حسب قدرة الطفل، وإذا رغب في الطعام تركناه حتى يشعر بأن هذا أمر يخصّه، وأنه شيء بينه وبين ربه، وما أجمل أن نشرح للطفل أن الصوم «أمانة»، يجب أن يؤديها الإنسان على الوجه الأكمل، وأنه سر بين الإنسان وخالقه، فهو المطّلع على أسراره، وهو الذي يحاسبه على كل ما يفعل في السّر والعلانية.