في باريس ومرسيليا وتولوز وبوردو وبرلين، يقف أطباء وطبيبات مبتعثون من دولة الإمارات، مع زملائهم الأوروبيين ليصدوا الهجمة الشرسة لوباء كورونا. لقد جاؤوا للحصول على تخصصات عالية وتدريبات في فروع طبية مختلفة ثم وجدوا أنفسهم جنوداً في جيش إنساني يحارب عدواً لا يفرق بين عرق أو دين أو جنس أو جنسية.
«كل الأسرة» تعرفت إلى عدد من هؤلاء الأبطال ونقلت جانباً من يومياتهم.
د. عائشة المنذري مع زميلات فرنسيات
ليست هي المرة الأولى التي أضطر فيها لإجراء مقابلات بالهاتف. فالصحافي يواجه في حياته المهنية ظروفاً تجبره على التواصل مع مصادره بالصوت والصورة دون أن يواجههم مباشرة. لكنها واحدة من المرات القلائل التي كان قلبي يخفق فيها وعيناي تدمعان وأنا أستمع إلى شهادات هؤلاء الطبيبات والأطباء الذين يقيمون على مسافة آلاف الكيلومترات عن وطنهم وأهاليهم، ويقضون ساعات لا عدّ لها في مستشفيات أجنبية، يواجهون جائحة لم يعرف العالم مثيلاً لقسوتها من قبل. لقد جاؤوا إلى فرنسا وألمانيا طلباً للعلم الذي أوصتنا العقيدة السمحاء بأن نطلبه ولو في الصين. وها هم بالمقابل يردون الجميل لمستشفيات فتحت لهم أبوابها، ولمرضى من غير عرقهم ودينهم وثقافتهم، يعالجونهم لأنهم أدوا القسم الذي وضعه أبو قراط، قبل الميلاد، والذي ينطق به خريجو الطب في كل أرجاء العالم.
الدكتورة عائشة المنذري
نحن أبناء زايد، تربينا على المساعدة
جاءت الدكتورة عائشة إلى فرنسا منذ ست سنوات لكي تتدرب وتتخصص، وقد تنقلت ما بين عدة مستشفيات حسب ضرورات تحصيل الخبرات. وبعد ظهور الوباء، تم إغلاق العديد من الأقسام لكي تتوجه جهود الأطباء والطاقم التمريضي إلى علاج المصابين. وواصل قسمها نشاطه لأنه من الأقسام الحيوية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وهو للمرضى العاديين ومرضى «كورونا» أيضاً. لذلك ازداد ضغط العمل بسبب تزايد المرضى واضطر قسم النسائية إلى طلب تعزيزات من الأطباء حديثي التخرج ومن طلاب كليات الطب لكي يساعدوا زملائهم المتمرسين.
درست الدكتورة عائشة في كلية دبي الطبية وتخرجت سنة 2009، وهي متزوجة وزوجها موجود في الإمارات، يتحدثان بالهاتف كل يوم ويحرص على أن تشعر بأنه معها دائماً. وهو يشجعها بكلامه وأدعيته فتشعر بالاطمئنان حين تسمعه يقول لها: «استودعناك الله». إن حياتها في خطر، لكنها لم تتخلف عما يمليه عليها ضميرها، وتقول: «يتعجب زملائي وزميلاتي الفرنسيون من بقائي أشتغل معهم. يقولون كيف لم تحزمي حقائبك وتعودي إلى وطنك وبقيت في بلد ترتفع فيه وتيرة الضحايا ويموت فيه المئات كل يوم؟ أرد عليهم أن ما أقوم به هو أمر عادي، فأنا من دولة اعتادت مساعدة الدول الشقيقة والصديقة في الملمات، وأنا أستمد طاقتي من دولتي الإمارات العربية المتحدة، التي تشجعني وتوفر لي المستلزمات العلمية والمادية. نحن جزء من الإمارات في سلوكنا، تربينا على المساعدة والتضحية منذ الصغر. نحن أبناء زايد». تطلب مني الدكتورة عائشة أن أنقل شكرها إلى شيوخ الإمارات وسفير بلادها، وإلى إخوتها الدبلوماسيين وجميع العاملين في السفارة، على اهتمامهم ومتابعتهم للمتدربين والمبتعثين، وتضيف: «أرجو أن تنقلي تحياتي، عبر مجلتكم، إلى شيوخنا وإلى جميع العاملين في القطاع الطبي والأمني في بلادنا، إنهم يوفرون أقصى جهودهم لرفعة الوطن وخدمة الجميع. ولا أنسى أهلي وزوجي وأختي خولة الذين كرمني الخالق بوجودهم في حياتي، لذلك أنا ممتنة لدعمهم الدائم لي، هم وجميع الأصدقاء الذين يساندونني».
الدكتورة أمل آل علي
زملاؤنا الفرنسيون يقدرون تفانينا ومشاركتنا لهم
الدكتور محمد الفلاسي
واجبنا كأطباء يحتم علينا المشاركة
الدكتور عبدالله الحربي
من العاصمة الألمانية برلين تحدث لنا الدكتور عبدالله الحربي. وهو من مدينة العين، ويعمل في المستشفى الجامعي للمدينة مع عدد من المتدربين الآخرين من الإمارات، أما تخصصه فهو الباطنية والقلب. وكان قد عمل في قسم العناية المركزة الخاص بقسمه حيث تولى الاهتمام بالمرضى الراقدين فيه ممن أصيبوا بجلطات دماغية أو أزمات قلبية أو أولئك الذين يحتاجون رعاية خاصة بعد العمليات الجراحية الكبرى. وحال ظهور مرض «كورونا» تم استدعاؤه مع زملاء له إلى العناية المركزة لمواجهة ضغط العمل هناك، حيث ساعات الدوام تكون على شكل نوبات تستمر ما بين 10 و12 ساعة. ترافق الدكتور عبدالله أسرته المكونة من زوجته وابن وابنة، وهو مضطر للقلق لا على مرضاه فحسب بل على عائلته الصغيرة أيضاً بسبب الخوف من العدوى. ويقول إنهم يتبعون الحجر الشامل ولا يخرجون من البيت إلا للضرورة، وهو الذي يقوم بتوفير احتياجاتهم ومعظم مشترياتهم. ذلك أن كل شيء متوقف والنقل العام شبه معطل. ويضيف: «إن زملاءنا الألمان يقدرون عملنا، ونظرتهم إيجابية لنا».
الدكتورة علياء الكلداري
أقيم في المستشفى وأداوم في البيت
تقول: «هناك ضغط عملي، حالياً، على الأقسام ذات العلاقة بالفيروس الوبائي، مثل تخصص الأمراض المعدية والطوارئ والعناية المركزة. وكنت أعمل في قسم العيادات والاستشارات الخارجية حين أصيبت إحدى زميلاتنا بالمرض وصار لدينا نقص في القسم. إن مراجعي العيادة الخارجية يحملون أمراضاً معدية أو يحتاجون لجراحات سريعة، وبينهم من يعانون أوراماً خبيثة تتعلق بالجلد، وواجبي أن أتبعهم أولاً بأول. لهذا واصلنا عملنا في استقبال المرضى مع الميل لأن تكون الاستشارات بالهاتف أو بالبريد الإلكتروني. وطوال ساعات الدوام لا يتوقف الهاتف عن الرنين حيث نعمل لأكثر من 8 ساعات، بحيث إنني أمزح مع زميلاتي وأقول لهن إنني أقيم في المستشفى وأداوم في البيت. ونهار أمس، على سبيل المثال، طلبوني في الإنعاش والسبب هو وجود مريضة تم تشخيصها مصابة بالفيروس وقد بدأت تظهر عليها عوارض طفح جلدي واحمرار في الوجه، بدون الضيق المعهود في التنفس. فهذا المرض يكشف لنا كل يوم عن وجوه جديدة. وقديماً كنا نقول إن حالة الإنسان الصحية تنعكس على جلده وأظافره وشعره، وها نحن نواصل العمل بتلك الحكمة القديمة».
تتصل الدكتورة علياء بوالدتها بالهاتف تحدثها عن التوتر الذي تعيشه، وترد الوالدة بأن توتراً يفرق عن توتر، فهناك التوتر الذي يسبب القلق وهناك التوتر الذي يحفزك على العمل. وهي عندما تقرأ عن تاريخ الأوبئة في العالم، لاسيما فترة الحمى الإسبانية التي أودت بالملايين في أوائل القرن الماضي، تجد أن الأطباء كانوا يهربون من المشافي خشية العدوى والموت، أما اليوم فإن الطب قد تقدم وهو يوفر للطبيب الحماية الكافية لمواجهة الخطر بقلب قوي. لذلك تقول: «عرفت الخطر منذ اليوم الذي اخترت فيه دراسة الطب وارتديت الصدرية البيضاء، وأنا حين ألبسها وأستقبل المرضى فإن كل الفوارق الدينية والعرقية والجنسية تزول بيننا ويصبح المريض الذي أمامي إنساناً ضعيفاً محتاجاً للتعاطف والتطبيب والطبطبة. إن الإنسان يكبر عندما يشتغل بهذه المهنة. وقد زاد إيماني بربي بعد التجارب الإنسانية التي أعيشها يومياً.
الدكتورة علياء هي «بنت دبي» كما تصف نفسها، وهي البنت البكر ولها شقيق وشقيقتان، والهاتف لا يتوقف بينها وبين والدتها. وهي لا تنكر أنها واجهت صعوبات مع زملائها الفرنسيين، في البداية، بسبب اختلاف الثقافات وشعور بعضهم بالتعالي، لكن الحال تغيرت وكثير من الزملاء والزميلات صاروا أصدقاء لها، وهو أمر انسحب على الممرضات والسكرتيرات أيضًا، وهي تعمل لهم أنواع «الكيك» كما وعدتهم بطبخة برياني. وتضيف: «السفارة الإماراتية في تواصل مستمر معنا للسؤال علينا وتلبية ما نحتاج، ومنهم المرشد الأكاديمي الدكتور عبدالرحمن الرفاعي، والملحق الثقافي طارق الشحي، لذلك لا نشعر بالغربة لأنهم يتحرون احتياجاتنا على الدوام». أضع سماعة الهاتف بعد أن أتمنى لهم السلامة والتوفيق، وبدورهم يوصونني: ابقي في البيت لأن المرض ليس مزحة، وقد تجاوز عدد الذين أودى بهم 12 ألف ضحية.