يقال إنه ثمة أمراض للأثرياء وثمة أمراض للفقراء، لكن «كورونا» أكثر الفيروسات عدلاً في هذا المجال إذ لم يميّز بين غني وفقير أو بين مشهور ومغمور. فقد أصاب الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا، وألبير أمير موناكو، وبوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا وجاستن ترودو رئيس وزراء كندا وزوجته، والممثل توم هانكس ومغني الأوبرا بلاسيدو دومنغو وسواهم من قادة العالم الحاليين والسابقين ومن رجال الأعمال والفن والسياسة ونسائها كما أصاب الفقراء في أحيائهم المكتظة في جميع أنحاء العالم.
لم يترك «كورونا» محطة تزلج فخمة إلا وعاث فيها إصابات، محطة «إشغل» في النمسا، و«فيربييه» بسويسرا، و«كورشوفيل» بفرنسا، و«فيل» في كولورادو بالولايات المتحدة. وكل هذه المحطات يؤمها أثرياء القوم وعليتها من كل جنسيات العالم وقد عادوا إلى بلدانهم بعد قضاء أوقات ممتعة ليساهموا مع باقي المسافرين والمتجولين عبر العالم في نقل الفيروس ونشره في أماكن إقامتهم.
وقد عدل «كورونا» بين المؤسسات التجارية والصناعية في العالم فأقفل ملايين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، ولم يبقِ إلا على ما هو حيوي وضروري منها لاستمرار حياة الإنسان، فحافظ على حلقات إنتاج الغذاء وبيعه وتصديره أو استيراده، كما أبقى على حلقات الدواء، حتى أن بعضه ارتفعت أسهمه في البورصات العالمية لتوقع قدرته على الشفاء من مرض «كورونا»، كما ارتفعت أسهم كل الشركات المنتجة لأدوات الوقاية ومستحضراتها.
وقد استفادت الأنظمة الدكتاتورية كما الديمقراطية من جائحة «كورونا»، إذ أصاب الذعر المواطنين فتوقفوا عن التظاهر ضد سوء إدارة طبقاتهم السياسية لمقدرات البلاد، كما حصل في لبنان وفرنسا. وقبلت الشعوب جميعها بكافة التطبيقات الإلكترونية التي تتعقب المصابين حفاظاً على صحة غير المصابين من دون أن ترفع الصوت عالياً وتنادي بالاعتداء على الحريات الخاصة.
بيد أن أكثر مظاهر العدل التي جاء بها «كورونا»، على الرغم من تضامننا مع ضحايا الفيروس وذويهم وإحساسنا بألمهم وفجيعتهم لخسارة أعزائهم، كان استرجاع بعضاً من حق الطبيعة على الإنسان. فمع خفض وتيرة النشاط الاقتصادي وانخفاض الإنتاج العالمي، انخفضت التنقلات الدولية بنسبة ثمانين بالمئة، ولم تعد تصنّع مليارات السلع البلاستيكية غير الضرورية لتباع وترمى في الطبيعة بعدها. وانخفض استهلاك الطاقة وانبعاثات الغازات السامة في الجو، ليتراجع الإنتاج والاستهلاك العالمي إلى ما كان عليه منذ عشرين عاماً خلت. ولربما نتعلم من جديد أن نشرب الصودا بالزجاجات التي يعاد تعبئتها، وأن نحمل معنا أوعية من المنزل أو أكياساً نستخدمها على الدوام نملأها بمشترياتنا ونرجع بها إلى منازلنا لنعيد استعمالها مرة أخرى.
سحابة قاتمة وقاتلة هو فيروس «كورونا»، لكني أحاول أن أرى السماء الزرقاء من خلفها.