24 أغسطس 2020

د. هدى محيو تكتب : أشخاصٌ لا أرقام

أستاذة وباحثة جامعية

أستاذة وباحثة جامعية

د. هدى محيو تكتب : أشخاصٌ لا أرقام

«روز» فاقت التسعين من عمرها، وربما فاقت المئة.. رفضت أن تفصح عن سنها وحينما سألها الصحفيون عنه قالت: «عمري من عمر ذكائي وعلمي». جلست في كرسيها على الطريق بعد أن منعها أهل الحي من البقاء في شقتها. خافوا عليها من أن تسقط فوق رأسها بعد أن تصدع البناء القديم من عصف انفجار مرفأ بيروت. تحدثت إلى الصحافة باللغة الفصحى وعبرت عن استنكارها لما حصل سائلة: «أيعقل هذا؟ أيعقل أن يحدث هذا في حي تقطنه أفضل معلمة في الجمهورية اللبنانية بشهادة الوسام الذي قلدني إياه فخامة رئيس الجمهورية بموجب مرسوم رقم...» كلا، لا يعقل أن يحدث هذا، لكنه حدث.

صعدت «سحر» إلى سيارة الإطفاء مع فريق من الرجال الأشداء. كانوا عشرة وهي الممرضة والفتاة الوحيدة بينهم. لم يفتها أن تصور الفريق داخل سيارة الإطفاء صورة «سلفي» لتبدو في وسطهم وكأنها شقيقتهم الصغرى. ذهبوا جميعاً إلى حتفهم، لم يرجع منهم أحد، ولا جزء من أحد.. ثلاثة منهم من عائلة واحدة. قبل أن تصعد «سحر» إلى سيارة الإطفاء، تلبية لنداء الواجب بابتسامتها العريضة المعهودة، اتصلت بخطيبها وأكدت له أنها تحبه مرة أخرى.. مرة أخيرة. 

يعمل «غسان» موظفاً في أهراءات مرفأ بيروت منذ خمسة وثلاثين عاماً. اتصل بزوجته يوم الرابع من أغسطس/آب عند الساعة الخامسة ليقول لها إنه لن يرجع هذا المساء إلى المنزل. هو مضطر للبقاء في الأهراءات من أجل تفريغ حمولة باخرة قمح رست في اليوم نفسه. لم يقل لها ولأولاده وبناته إنه لن يرجع أبداً. بعد الانفجار، أخبرها رفاقه أنهم كانوا ينزلون إلى طابق تحت الأرض في الأهراءات للاحتماء من القذائف خلال الحرب الأهلية. أيقنت ابنته أنه هناك، حي يرزق. وحتى اللحظة.. لا يزال هناك. 

دخلت برفقة زوجها إلى مستشفى القديس جاورجيوس الذي يقع على تلة مواجهة تماماً لمرفأ بيروت؛ حيث يشرف على البحر من هناك. حان موعد ولادة ابنهما البكر وقد حاصرتها آلام المخاض. استقبلتها الممرضات والطبيبات المتمرنات، جهزنها، أعددنها، رافقنها إلى غرفة التوليد. زوجها يصور كل هذه اللحظات التاريخية في حياة أسرته غير مدرك أنها لحظات تاريخية في حياة وطنه. جاء الطبيب في الدقائق الأخيرة ليتلقف المولود الصغير. أخذ بغسل يديه وفركهما. دوى انفجار أول أوقع الجميع في ذهول، تبعه انفجار آخر أوقع الجميع أرضاً وقذف بهم أمتاراً. تهاوى عليهم الزجاج والأبواب والأسقف المستعارة والتجهيزات والأسرة... انقطعت الكهرباء وأخذ المستشفى المنكوب يخلي مرضاه. وقف فريق التوليد مجدداً على قدميه، اطمأن الجميع على صحة الجميع وعلى صحة الأم وجنينها. أضاؤوا مصابيح هواتفهم وباشر الطبيب عملية الولادة. فخرج طفل من رحم الانفجار إلى رحاب الحياة.
هذه حكايات لمن عاشوا الانفجار، ماتوا في الانفجار، ولدوا في الانفجار... سيظلون في عيون من أحبهم أشخاصاً لا أرقاماً

 

مقالات ذات صلة