لا يمكن الركون إلى الماضي الجميل دون تلمس بعض من ملامحه وأدواته وقصصه العفوية التي كانت تحاك من تعب وجهد وحب وصبر. - فالماضي يحتاج منا إلى ما نراه ونتلمس وجوده لنهادن الذكريات أو نتماهى معها حتى لو لم نعشها، ونستعيد محطات من طفولة جداتنا وأجدادنا وأمهاتنا وآبائنا.
يمكن القول إنّ متحف حسن بو صابر الشخصي نجح في إرساء معادلة عادلة في تجسيد الماضي بأجمل صوره واستنباط مقتنيات على تماس مع الذاكرة ومع خلايا الروح التي تستأنس بأصالة الزمن الجميل.
فهذا المتحف الأول في منطقة حلوان بالشارقة هو نتاج مجهود شخصي للإماراتي حسن أحمد بو صابر آل علي الذي بدأ هوايته في جمع مقتنيات الماضي مذ كان صغيراً حيث الشغف كان يتملكه تجاه كل مقتنى قديم يمثل، بالنسبة له، ذاكرة روح وقلب.
يعرّف عن نفسه بتدوين عبارة عند باب متحفه «أحب الماضي وأعشق تراث الإمارات. أجمع وأحفظ وأصون مقتنيات التراث القديم ليتعلم أبناؤنا الحفاظ على تراثنا وتاريخنا».
فرسالته تتفرّع إلى جزأين: الجزء الأول يتعلّق بإيصال رسالة للجيل الحالي والأجيال اللاحقة بضرورة التمسك بالتراث بناء على رؤية الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي يدعو إلى «ضرورة الحفاظ على تراثنا القديم لأنه الأصل والجذور». يعتبر بو صابر هذه المقولة «منطلقاً لهذه الحماسة في جمع كل ما يتعلّق بالماضي وجمع الأشياء التي لم تعد تستخدم منها أدوات الطواش وغيرها ليستعيد عبرها أبناؤنا ملامح الماضي بكل جمالياته وبساطته».
هذه الرسالة يمكن إيجازها بالشغف الذي يتملكه تجاه «اقتناء التحف والتراث القديم النادر والمحافظة على إرث الآباء والأجداد ونقله بحلته التراثية إلى الأبناء والأجيال المقبلة من خلال التوعية والثقافة المعرفية».
بيد أنّ تلك الثقافة المعرفية لا بدّ أن تتعزّز بالاستمرارية، حيث الجزء الثاني من الرسالة أو الحلم الذي يجسده، إذ يتمنى الحصول على الدعم الحكومي «لتحقيق أمنيتي وهي تحويل متحفي إلى أكبر متحف شخصي على مستوى العالم».
جولة في متحف بو صابر
تتحرّك مكامن الحنين في أعماقنا عند التجوال في أركان المتحف ورصد مختلف أنواع المقتنيات التي كان يستخدمها «ناس أول» وزواياه العامرة من «القهوة الشعبية»، إلى «دكان زمان أول»، و«حلاّق أول» و«الطواش» إلى «غرفة العروس» ومحل الألعاب القديمة «ومحل “المداوي” ومحل «المواعين» ومحل “نوادر” والذي يحتوي على مسجل السلك ويطلق عليه «شيكاغو» ويعود لعام 1940 إلى فونوغراف «إديسون» ويعود لعام 1911 كما «كومبيوتر صخر».
القهوة الشعبية هي الركن الأول للذاكرة الحية الممتدّة نحو «زمن الطيبين» حيث رائحة الماضي تواكب كل ركن وزاوية فيها بطابعها التراثي العريق. تفتح الجولة أبواب الماضي على مصراعيه. هنا «غرفة العروس» بزهبتها ومباخرها وفيض الجمال الكامن في كل مقتنى حيث الإطلالة على حياة جديدة، حيث الزهبة تحمل الحكاية الأجمل لعروس بهية تنسج من أثوابها المزركشة ألوان فرح وتجدل ضفائرها بالورد والياسمين وتتقلّد أساورها الذهبية أو «الحيول» كما «الطاسة» و«المرتعشة». هو ركن يطّل على «تواليف» أمومة معطاءة وتفاصيل مهمة من طقوس العرس الإماراتي العامر بالعطور والبخور.
«دكان زمان أول»
تنبض الطفولة في الأعين ويسترجع بريق الأيام الماضية عند دخول «دكان زمان أول» الذي يروي حكاية البقالة القديمة في الضواحي والفرجان. «دكان زمان أول» يستعيد حتى أمشاط الشعر التي كانت تباع بقياسات مختلفة وعلب الحليب والسيريلاك الذي رافق طفولة البعض بعلبته الصفراء وعليها صورة الأم التي تطعم طفلها بعفوية وحب، وحتى يستعرض علب الحلوى والبسكويت التي كان الإماراتيون يأتون بها من الكويت تحديداً وبينها علب حلوى «كواليتي سيكرت» بعلبتها البنفسجية.
لا يمكن إحصاء المقتنيات المتوافرة داخل المتحف كما لا يمكن أسر المشهد في زاوية معينة كون كل ركن يحاكي ذاكرة وصورة وأناساً وحيوات عدّة ويتماهى مع مكان وزمان ومع تفاصيل يومية عاشها آباؤنا أو عشنا جزءاً من ملامحها غير البعيدة.
بعض التفاصيل يجسدها ركن «حلاق أول» الذي يضّم أدوات الحلاقة القديمة وعدّة الحلاقة منها الموس، الطاسة (إناء صغير)، ومسن الموس وبعض قطع القماش وقطع صابون تستخدم لغسل الرأس قبل المباشرة بالحلاقة.
ويروي محل الطواش قصص الغوص والبحر ورحلة الكفاح ولا يتوانى محل «الألعاب القديمة» عن تحفيز لحظات طفولية إلى الذاكرة، كما يضّم محل المداوي الأعشاب الطبية والأدوية القديمة المعروفة آنذاك، في حين يحاكي محل «مواعين» توجه ربات البيوت نحو اقتناء القدور والصحون والدّلال والفناجين من باب ما تتسم به البيوت الإماراتية من كرم وضيافة.
تتفاوت ردّة الفعل بين الزائرين للمتحف ولكن الفرح هو السمة الأساسية التي تواكب وجوه الزائرين لدى رؤية مشروبات المياه الغازية «أيام زمان»، منها الديكسي وشاني وفانتا وهاي سبوت وكراش، وكذلك القناديل والهواتف التقليدية وحتى النقالة منها والتي درجت مع بداية استخدام «الموبايل» في منتصف التسعينات.
يقول بو صابر «من يوازيني سناً وأكبر، يتماهى حنينه مع المقتنيات التي تشكّل له أحد ملامح حياتهم الماضية. فالبعض يستعيد ذكرياته وآخرون يتذكرون الملامح الجميلة من زمن مضى لدرجة أن امرأتين قامتا بزيارة المتحف وإحداهما بكت متأثرة، مستعيدة صورة أمها وجدتها عندما رأت أداة «التلي» و«زهبة العروس» ومقتنيات أخرى».
نجح بو صابر في امتلاك متحف شخصي يحتوي على روائع الفن التراثي القديم المتمثلة في قطع متنوعة ما بين الكاميرات المتنوعة التي تعود لعقود عدّة والراديوهات على أنواعها والخزفيات والمنسوجات والمنحوتات والزجاجيات والأسلحة والسيوف والمباخر والمعادن النفيسة والساعات والإصدار الأول لعملات قديمة استخدمت قبل قيام الاتحاد وغيرها.
يرصد مسيرته على مدى سنوات عمره حيث هواية السفر دفعته إلى تعزيز شغفه والوصول به إلى تأسيس متحف حيث تمّ تكريمه من قبل «متحف عجمان» كأفضل متحف شخصي ومن قبل الملتقى الخليجي للتراث والحرف، إلى مشاركاته المتعددة مع دوائر ومؤسسات حكومية وزيارات ميدانية معرفية وثقافية من المدارس الحكومية والخاصة وتوعية الطلاب وتعريفهم بتراث الآباء والأجداد.
على أبواب الستين، يقف حسن أحمد بو صابر آل علي، الذي عمل كمدير أول الإجراءات الجمركية في جمارك دبي لمدة 30 عاماً، متمسكاً بحلمه في أن يكون متحفه «أكبر متحف شخصي على مستوى العالم»، وهو تفرغ، بعد تقاعده، لتحقيق هذا الحلم وبالأخص أنّه يتسم بقدرته على تمييز حالات القطع المقتناة وكشف الأصلية من المقلدة من خلال الخبرة والدورات التخصصية في هذا المجال ومشاركاته في مزادات تراثية في الخليج وحتى في مزادات عالمية.
* تصوير: سيد رمضان