تساهل الباريسيون في ارتداء الكمامات الواقية من «كورونا» فعاد الوباء إلى مهاجمتهم بقوة. وهذا الصباح استيقظت على تقرير يشير إلى وقوع 3500 إصابة جديدة في فرنسا خلال يوم أمس. صار علينا أن نعتبر الكمامة جزءًا من الزي الذي نرتديه في الخروج، مثلها مثل الحقيبة والعوينات الواقية من الشمس. وفي الأسواق كمامات تحمل تواقيع كبار المصممين. أتفرج عليها وأقرأ أسعارها الباهظة وأسخر بيني وبين نفسي. هل ينهزم الفيروس عند رؤية «ديور» أو «فويتون»؟
تعلمنا كيف نتحدث من وراء الكمامة، وكيف نصغي إلى الآخرين. وقد بدأت بعض المتاجر تعرض كمامات من قماش شفاف لكي تلبي طلبات ذوي الاحتياجات الخاصة ممن يعانون ضعف السمع أو فقدانه. إن الصم معتادون على فهم الكلام من خلال قراءة حركة الشفتين، لكن الكمامة السميكة تحرمهم من ذلك فابتكروا لهم ما يناسبهم. والمثل يقول إن الحاجة أم الاختراع. وقد تعلمنا أيضًا كيف نرتب شريط الكمامة وراء الإذن بحيث لا يتشابك مع الأقراط ولا مع أذرع النظارات. لكن أحمر الشفاه بات غير ذي فائدة.
مع الكمامة، صار علينا أن نتعايش مع القلق من الوباء. نقول إن الأعمار بيد الله ونترك الأمور لعناية السماء. نخرج إلى المطاعم والمقاهي ونتبادل مع الزبائن نظرات استفسار متشككة. هل أن طاولة جاري بعيدة بما يكفي عن طاولتي؟ ومن يضمن لي أن النادل الذي جاء لي بالقهوة قد عقم يديه؟ أدفع الحساب وأتردد في لمس قطع النقد الصغيرة التي يعيدها لي. الغالبية تحمل في حقيبتها عبوات صغيرة من السائل المطهر. أمسح الكفين والنقود وشاشة الهاتف. أكاد أمد يدي إلى الصحيفة المجانية الموجودة أمامي ثم أسحب يدي. لعل وريقاتها تلوثت بيد زبون تصفحها قبلي.
يخاف الناس جميعًا لكنهم فقدوا القدرة على حبس أنفسهم في الشقق الصغيرة. ترتفع أسعار العقارات في باريس بشكل جنوني رغم انشغال العالم بالجائحة.
كثيرون يبحثون عن شقة مع شرفة حتى ولو كانت لا تتسع سوى لكرسيين. الشرفة، أو «البلكون» هي المتنفس الوحيد في ساعات الحظر. إنه صيف قائظ لم تعرف البلاد مثيلًا له في العقود الأخيرة. أتشجع وأتناول الصحيفة بطرف المنديل الورقي.
أبحث في صفحات المنوعات عن أخبار سارة فأقع على تقرير للمراسل في نيويورك عنوانه: «كتبت وصيتي». وهو يتحدث عن معلمة في واحدة من مئات المدارس الأمريكية التي ستفتح أبوابها في كولورادو، السنة الدراسية الجديدة. إنها تؤكد اشتياقها لملاقاة تلاميذها وللعودة إلى عملها الذي تحبه، لكن الخوف يلجم فرحتها. وهي تعترف بأنها كتبت وصيتها خشية أن تصاب بالوباء على حين غرة. ففي ولايتها تم تشخيص 97 ألف حالة إصابة بين الأطفال. مع ذلك فإن الحملة الانتخابية قائمة على أقدام وسيقان وكأن الدنيا عال العال.
ملايين الإصابات في أمريكا، والرقم خطير في إفريقيا أيضًا، وفي أستراليا. ليست هناك قارة بمنأى عن «كورونا». فهل تستسلم البشرية وترفع الراية البيضاء أم تقاوم كما قاومت الطاعون والجذام والكوليرا والسل وتنتظر اللقاح الشافي؟
في انتظار اللقاح، سأنزل لشراء صندوق كبير من الكمامات البيض والزرق، لأن معركتنا تبدو طويلة.