قبل أسابيع قلائل ماتت المحامية الفرنسية جيزيل حليمي. واليوم يصدر لها كتاب جديد بمثابة الوصية التي تتركها السيدة التسعينية لبنات الزمن الحالي. لم تكتسب حليمي شهرتها من كونها واحدة من أشد المدافعات عن حقوق المرأة في فرنسا. بل أيضًا من أنها كانت المحامية الشجاعة التي تطوعت للدفاع عن المجاهدات الجزائريات المعتقلات في السجون الفرنسية خلال حرب تحرير الجزائر.
عنوان الكتاب «حرية شرسة». وهو محاورة طويلة جرت قبل رحيلها بينها وبين الصحافية في جريدة «لوموند» آنيك كوجان. والسؤال هو: كيف تكون الحرية شرسة؟ لابد من الاطلاع على المحتوى لكي نفهم أنه العنوان الأكثر تعبيرًا عما آمنت به جيزيل حليمي من مبادئ. فقد بلغ من «شراسة» حريتها وجموحها أنها وقفت مع الحق حتى لو استدعى أن تدافع عن «أعداء» وطنها.
من هم أعداؤها؟ إنهم مجاهدو حرب التحرير الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي. حرية الفكر أكثر من هذا الموقف؟ وهي ليست مواقف كلامية فحسب، فالمحامي في مثل هذه القضايا الكبيرة ليس مجرد مرافعة في قاعة، بل حضور مستمر في وسائل الإعلام ومشاركة في المظاهرات ومواجهة عنيفة مع المتشددين من أهل بلده الذين لا يتوانون عن وصفه بالخيانة. دافعت جيزيل حليمي عن المجاهدة جميلة بو باشا. وكانت بو باشا واحدة من ثلاث «جميلات» جزائريات سجينات في فرنسا، إلى جانب جميلة بوحيرد وجميلة بو عزة. كن مهددات بالإعدام بتهمة القيام بعمليات إرهابية. وهي عقوبة كانت سارية في ذلك الوقت من ستينات القرن الماضي. لكن جيزيل حليمي كشفت أمام العالم كله أن موكلتها تعرضت للتعذيب الشديد، وأن جنود الجيش الفرنسي كانوا يغتصبون النساء في القرى التي يداهمونها. والأهم من هذا، أن المحامية الفرنسية وضعت خطًا فاصلًا بين الإرهاب والجهاد ضد الاستعمار.
وجيزيل مولودة في تونس لأسرة يهودية. لكن انتماءها الديني لم يمنعها من أن تكون محامية مناضلين فلسطينيين. ومرة أخرى استندت في دفاعها إلى أن مقاومة الاحتلال هي فعل وطني وليست تخريبًا أو إرهابًا. وكنا قد نشرنا في «كل الأسرة» حديثًا مع جيزيل حليمي باعتبارها محامية السجين السياسي الأشهر مروان البرغوثي. نقرأ في الكتاب أنها آمنت منذ الصغر بالعدالة بين الجنسين. وكانت في العاشرة حين أعلنت الإضراب عن الطعام لأنها الوحيدة التي تخدم أشقاءها على المائدة. لماذا لا يساعدونها في جمع الصحون بعد العشاء؟ غضب أبوها وقرصتها أمها لكنها لم تتراجع عن عنادها. وبهذا العناد تفوقت في الدراسة لكي تكون ندًا للإخوة المدللين. وسافرت إلى باريس لتدرس المحاماة وتصبح واحدة من الساعيات لزحزحة القوانين الجامدة التي تقيد النساء. وكانت رفيقاتها في النضال: سيمون دو بوفوار وإيفيت رودي وسيمون فاي. لكن صديقتها الأقرب إلى قلبها بقيت جميلة بو باشا.
عاشت جيزيل حليمي 93 عامًا، جمعت خلالها العشرات من شهادات التكريم، ومثلها من الشتائم. لكنها تبقى المرأة التي نجحت، في عام 1980، في إجبار المشرع الفرنسي على إعادة تعريف مفهوم «الاغتصاب» وتشديد عقوبته.
وفي الكتاب الجديد تسألها الصحافية عن رأيها بحركة «مي تو» التي انطلقت في أمريكا ضد التحرش. فتجيب بأنها «حركة لطيفة لكنها لن تغير الكثير». إن المطلوب ثورة نسائية ضد الظلم. وهي تبدي دهشتها من أن هذه الثورة لم تحصل حتى الآن. إن وصيتها لامرأة اليوم تتلخص بكلمة واحدة: «ثوري». وقد سبقها إليها شاعرنا نزار قباني في واحدة من قصائده.