من ولدوا ونشأوا في الأرياف والبلدات البعيدة عن العواصم أو المدن الصاخبة، طالما حسدوا الساكنين في المدن على مقادير البهجة وجاذبية الأسواق والمقاهي والمطاعم وصالات الموسيقى والمسارح وقاعات الفنون وغيرها من مظاهر رغد المدينة وأضوائها.
كلما كانت أعمار هؤلاء أقل، في سنوات فتوتهم وشبابهم، ازداد تطلعهم لحياة المدن، التي قد تتحقق لهم من خلال التحاقهم بالجامعات والمعاهد فيها، أو حصولهم على فرص عمل هناك، ولكن بعضهم ما إن يتقدم بهم العمر، ويبلغوا الكهولة أو الشيخوخة، حتى يضجروا من المدينة وصخبها واكتظاظها بالمواصلات والبشر، ويعاودهم الحنين إلى مرابع طفولتهم وصباهم الهادئة، ويتوقون للعودة إليها مجدداً، وقضاء ما تبقى من أعمارهم فيها.
لكن ليس هؤلاء وحدهم من ينتابهم هذا الشعور، فحتى أولئك الذين ولدوا ونشأوا وكبروا في المدن، ولا عهد سابقاً لهم بالأرياف والبعيد من البلدات، تنشأ لديهم ذات مشاعر الضجر من حياة المدن، والرغبة في أن يبعدوا عنها، إلى مناطق هادئة، إما في ضواحي مدنهم، أو حتى بعيداً عنها، نحو حياة أبسط وأهدأ، ينعمون بأعمارهم الباقية ويمارسون ما يحبون من هوايات.
كانت جائحة «كورونا»، وما فرضته من تدابير حجر وانعزال قد نبهت الناس، من جديد، لهذا الأمر، الذي لم يكن مغفلاً من قبل على كل حال، وينقل تقرير صحفي أعدّه بيتر يونغ، ونشر على موقع «بي. بي. سي»، عن أستاذ مختص قوله إن «الحياة في المدن بعد الوباء لن تعود قط كسابق عهدها، فإغلاق مراكز المدن كشف أهمية الروابط الاجتماعية، لكن من منظور مختلف».
خبراء التخطيط يقولون إنه يجب التفكير في بناء مدن حديثة صغيرة، يصفونها بـ«مدن الـ 15 دقيقة»، تكون مجهزة بكل ما هو ضروري لمستلزمات العيش، لا يلزم الناس، فيها، أكثر من ربع ساعة لقضاء جميع احتياجاتهم، دون الاضطرار لقطع مسافات طويلة تستغرق الساعات أحياناً في أنفاق المترو أو في الحافلات والقطارات، ليبلغوا مقاصدهم، بالوصول إلى أعمالهم أو المطاعم أو المتنزهات أو المستشفيات أو المراكز الثقافية.
والمقصود هو «تصميم مدن يستطيع سكانها الوصول إلى جميع احتياجاتهم سيراً أو بالدراجة، على أن تحقق كل منطقة من هذه المناطق ست مهام: السكن والعمل وتوفير الاحتياجات الأساسية والرعاية والتعليم والترفيه».
يمكن القول إن الناس بدأت تشعر بـ«وحشة» المدن، وبالغربة فيها، وصارت تتوق إلى حياة أكثر ألفة ووداعة، توفرها مناطق نظيفة وأقل تلوثاً، تؤمن درجات أرحب من دفء العلاقات الاجتماعية، ومن التواصل السوي بين المقيمين فيها.