كانت «كورونا» فرصة لإعادة النظر في الكثير من وقائع العيش. استغلها كثيرون لغربلة مكتباتهم وملفاتهم وأوراقهم القديمة. وهناك من تفرغ لنفض الخزائن والتخلص من الثياب التي ظلت مكدسة لعدة سنوات، لم تمسسها يد. وبجانب هذا النشاط الفردي والخاص، ظهرت محاولات جماعية للنظر إلى أساليب العيش والتفكير في تقويم الناشز منها.
في فرنسا، انشغل المواطنون بمناقشة توصية مفاجئة صدرت عن الأكاديمية الطبية. إنها الصرح العلمي الأعلى في ميدانها. وهي قد أوصت مستخدمي وسائط النقل العام بالسكوت وعدم الكلام أثناء ركوبهم الحافلة أو عربة المترو. والسبب هو تفادي العدوى لأن الكلام يمكن أن ينقل رذاذ اللعاب إلى الركاب المجاورين. صحيح أن الكل يلتزم بشروط التباعد وبارتداء الكمامة لكن الخبراء يقولون إنها لا تكفي.
فتحت هذه التوصية الباب لنقاش مجتمعي أوسع، يدور حول التصرفات السليمة الواجب اتباعها في المجال العام، أي الشارع والجامعة والمكتب ووسائط النقل العمومية. يمكن أن نطلق على هذه السلوكيات تسمية «أخلاق المترو». هل يحق للمواطن أن يأكل، أو يتكلم في الهاتف، أو يضحك بصوت عال وبشكل يقلق هدوء جيرانه؟
جاء في بيان الأكاديمية أن المتحدث بالصوت العالي لا يقلق غيره من الركاب فحسب بل يمكن أن ينقل إليهم عدوى مختلف أمراض الجهاز التنفسي، وأبسطها الرشح والزكام. وكان رد إدارة النقل العام أن هناك قائمة بالتصرفات الخارجة على القانون و عن آداب مخالطة الناس واحترام راحتهم. وأول بنود القائمة ضرورة شراء تذكرة قبل ركوب الحافلة أو المترو أو الترام. إن المخالف يعرض نفسه لغرامة متصاعدة أقلها 50 يورو وقد تصل إلى 180.
اعتاد من يتنقل بالمترو أن يرى ركاباً يقفزون فوق البوابات الدوارة، لأنهم لا يحملون التذكرة التي تفتحها لهم. وهؤلاء عادة من فئة الشباب. لأن الأمر يحتاج أن تكون من أبطال قفز الحواجز. وهناك من يركع على ركبتيه ويحاول الزحف والمرور من تحت البوابات، أو أن ينحشر ما بين درفاتها الضيقة ويمرّ بالغصب. وهي مناظر تتسبب في «بهدلة» صاحبها في أقل التقديرات. أما إذا وقع في يد المراقب فإن المخالفة قد تودي به إلى التوقيف في حال كان عاجزاً عن دفع الغرامة الفورية الباهظة.
هناك من يطالب اليوم بمنع تناول الأطعمة في المترو. وهو أمر سيثير جدلاً يشبه ذاك الذي دار قبل عقود حين صدر قرار بمنع التدخين في العربات. كان المدخن العتيد يشفط بقوة آخر نفس من سيجارته قبل أن يرميها وينطبق باب العربة. وهو عندما ينزل في المحطة المقصودة فإن أول ما يفعله هو إشعال سيجارة جديدة. ثم صدر بعد ذلك قرار بمنع التدخين داخل الأنفاق والممرات كلها. وأعرف مدخنين يتنقلون سيراً على الأقدام لكي لا يتخلوا عن إدمان السجائر. ماذا سيفعلون حين يجري منعها في الشوارع وعلى الأرصفة، مثلما هي الحال في عدد من المدن الأمريكية؟
أصوات كثيرة ارتفعت للاعتراض على توصية الأكاديمية الطبية. «نعم، فهمنا أن التدخين مضر بالصحة، فهل الكلام مثل السيجارة لكي نمتنع عنه ونخرس في المترو؟». وما دمنا في فرنسا، فإن الحجة التي يرفعها هؤلاء هي الحرية الشخصية. «أنا أتكلم متى ما أريد وحيثما أحب». ولعل لسان حال هؤلاء هو: أنا أتكلم إذاً أنا موجود.