لطالما كان لبنان «سويسرا الشرق»، قبلة السائحين ولاسيما العرب، ممن كانوا يقصدونه للراحة والاستجمام والتسوّق، حيث كانت أسواقه تزخر بالبضائع المختلفة من الماركات العالمية الفخمة إلى الماركات المحلّية المتنوعة وتلك السورية المستوردة من بلد شقيق منتج إلى بلد مُجاور يستهلك بضائع رخيصة لذوي الدخل المحدود، وغيرها من البضائع التي كان الشعب اللبناني يجد فيها طلبه، كلٌ حسب مستواه المادي.
اليوم، وبعدما تساوى الغني والفقير، بشكل عام، لم يعد أمام المواطن اللبناني خيارات كثيرة في ظل تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، فمهما كانت البضائع المستوردة رخيصة الثمن فهي مسعّرة بالدولار الذي قضّ مضاجع الفقراء وذوي الدخل المحدود، أما وكالات ومحال الماركات العالمية، فقد أقفلت أبوابها أمام من كان لديه قُدرة الشراء العالية الذي لم يعد السوق اللبناني وُجهته إلاّ نادراً، هو القادر على التسوّق من الخارج.
وسط هذه الصورة القاتمة، ومع حلول موسم الأعياد بات المستهلك اللبناني يُفتش عن أسواق جديدة، لم يكن يُفكّر يوماً طرق أبوابها لأنه اعتاد الرفاهية ولو بقدر، الأمر الذي جعل سوق «البالة» يزدهر، لأن الطفل لا يُدرك أن الأزمة الاقتصادية يُمكن أن تحرمه فرحة العيد الوحيدة التي بقيت له في زمن «كورونا»، مما اضطر بعض الأهالي للجوء إلى بديل قسري إذا كان لا بُدّ من التسوّق.
في جولة على بعض هذه المحال، قابلنا نماذج شعرت بالخزي من موقف لم تكن تتصور أن تجد نفسها فيه في يوم من الأيام، فرفضت الحديث مطلقاً وفرّت هاربة، ونماذج أخرى تحدّثت ولكنها رفضت التقاط الصور، وثالثة وجدت متنفساً للبوح والتنفيس من أزمة تجثم على صدور أفرادها ولا يعرفون لها نهاية.
آراء التجار
علي الشعار، وهو تاجر قديم لا يُوّفر سلعة يُمكن أن تكون مصدر رزق، وعمل في تجارة الجلديات والنوفوتيه، وفي تجارة «البالة».
عن هذه التجارة يقول «كنّا نعتمد في تصريف البضائع على العمّال الأجانب الذين كانوا يتواجدون بكثرة في لبنان، ولكن الظروف الاقتصادية المتدهورة غيّرت الخريطة اليوم، فأصبح اللبناني مُجبراً على التسوّق من هذه المحال نظراً للقدرة الشرائية المنخفضة، هذا عدا عن أن الماركات التي تتضمنّها «البالة» تتضمّن ماركات عالمية أحياناً، تُغري أحياناً كثيرين من أصحاب الدخل العالي لطرق أبوابنا بعيداً عن أوقات الذروة في البيع لأنهم يشعرون بالحرج من تواجدهم في محالنا، ولا أُخفي سرّاً بأننا في بعض الأوقات نكون مقصداً لقُضاة ومحامين بحسب مواعيد ليلية مُسبقة يتم تنسيقها معنا، تقضي بإبلاغهم بوصول البضائع الجديدة ليختاروا منها النُخبة».
إيمان، لم يعد لديها من اسمها ما يُعينها على الوثوق بحال وصلت إليه بعد أيام عزّ شهدتها قبل طلاقها، والتزامها بمصروف ولديها التي تحاول أن تؤمن لهما ما استطاعت من مأكل ومشرب ومصاريف فاقت كل طاقتها وراتبها البسيط الذي لم يعد يكفيها لحياة كريمة في ظلّ الغلاء المستفحل، فجاءت إلى محل «البالة» علّها تجد ما يُمكن أن تُلبسه لولدين اقتربا من سن المراهقة، وأصبحا واعيين على الحياة من خلال مواقع التواصل التي زادت «الطين بلّة»، على حد تعبيرها، لتكثر طلباتهما، ويزداد تذمرهما.
خضر شبقلو، لا يجد حرجاً من دخول هذه المحال، ولكنه يواجه مشكلات مع عائلته التي «تستعرّ» منها، ولكن الله لا يُكلّف نفساً إلاّ وسعها، على حدّ تعبيره، «وأنا لا قُدرة لي على شراء بنطال ثمنه 200 ألف ليرة وما فوق، وقميص بـ 100 ألف، في الوقت الذي لا يتعدّى فيه راتبي المليون ليرة».
البضاعة الأوروبية مرغوبة بشكل عام، والبالات تتضمن ماركات أصلية، فيها الجديد وفيها المستعمل، وإن اختلفت النسب
فوزي، العاطل عن العمل منذ أربع سنوات، أصبحت «البالة» وُجهته بعدما أُوقف عن العمل لأنه لا يريد أن يكون عبئاً على أولاده الذين بالكاد يجدون قوتهم.
هؤلاء بعض ممن سمعنا منهم قصصاً كان يُمكن أن نسمعها في دول الجوع والعالم الثالث فقط، لنتنبّه للحظة أننا لم نعد في «سويسرا الشرق».
بعد جولتنا على الزبائن، كان لنا وقفة مع أحد أصحاب هذه المحال، اسمه إبراهيم، ويعمل في هذه المهنة منذ خمس سنوات، ولكنه لم يذكر اسم عائلته، فقد كان قلقاً من وجودنا وطلب بطاقتنا الصحافية، قبل أن يجيب عن أسئلتنا بحذر، في البداية سألناه:
- لماذا قررت العمل في هذه التجارة، خصوصاً وأن الوضع الاقتصادي قبل خمس سنوات كان جيداً؟
البضاعة الأوروبية مرغوبة بشكل عام، والبالات تتضمن ماركات أصلية، فيها الجديد وفيها المستعمل، وإن اختلفت النسب، فأحياناً يكون الجديد بنسبة 70 في المئة، أو أكثر أو أقل.
- ما مصدر البضائع؟
مصدرها بلجيكا وألمانيا والسويد، حيث يتم تجميعها وتصديرها، ولكنها كبضائع، من دول أوروبية مختلفة، يتم تجميعها من المصانع وتدفع ثمنها جمعيات إنسانية للاستفادة منها اقتصادياً، أما البضاعة الأمريكية فهي مستقلّة وكذلك الكندية والأسترالية، وقد دخلت كوريا أخيراً على خط هذه التجارة، ونستوردها عن طريق البحر.
إبراهيم - تاجر في سوق "البالة"
- هل راجت هذه التجارة اليوم، بعد الأزمة الخانقة التي يعيشها اللبنانيون؟
كان اعتمادنا في البيع على الأجانب العاملين لاسيما الآسيويين والإفريقيين في لبنان، ولم يكن هناك إقبال من اللبنانيين إلاّ بنسب بسيطة جداً على كل البضائع، أما على مستوى بيع الأحذية وخصوصاً الرياضية، فقد كان سوقها رائجاً من قبل لأنها تتضمن ماركات عالمية أصلية بسعر أقل من سعر الأسواق بكثير، واليوم زاد الإقبال عليها أكثر، لأن بعض الذين كانوا يشترونها بالدولار لم يعودوا قادرين على الدفع بهذه العملة من وكالاتها.
- كيف تتراوح أسعار السلع؟
كل بضاعتنا بالنسبة لماركاتها لا يتعدى ثمنها نسبة الـ5 % أو الـ10%، فالحقيبة التي تُباع في وكالاتها بنحو 300 دولار، لا يتعدى ثمنها 50 ألف ليرة لبنانية، والحذاء الرياضي الذي يُباع في وكالته بنفس السعر يكون ثمنه مئة ألف ليرة لدينا.
- هل يجد اللبناني اليوم حرجاً في دخول محال «البالة»؟
الشعب اللبناني اعتاد الرفاهية في حياته، ولا أُنكر أن كثيراً من زبائننا شعر بالحرج في بداية دخوله إلى محالنا، وكان دخولهم إليها مُخاطرة بالنسبة لهم، ولكن بعد اختبارهم نوعية البضاعة لدينا وما وصلت إليه الحال عموماً غيّروا في سلوكهم وزال حرجهم.
- هذه التجارة مُربحة؟
هي كغيرها من أنواع التجارة الخاضعة للعرض والطلب،وهي اليوم كغيرها من السلع تتعرض للاستغلال من قبل التجار الذين ضاعفوا أسعارها بشكل كبير، فالبالة التي كنّا ندفع ثمنها 600 ألف ليرة لبنانية، بتنا ندفع ثمنها بقيمة تصل إلى 9 ملايين ليرة لبنانية وهو أضعاف مضاعفة.