تمخر عشرات من السفن عباب الماء في رحلة عبور يومية لقناة السويس، مخترقة ثلاث مدن مصرية تطل على المرفق التجاري الأشهر في العالم، ما يمنح العابرين متعة إضافية لا تخلو من سياحة ثقافية ممتعة، عبر التعرف إلى العديد من أنشطة الحياة في تلك المدن، التي ارتبطت في ظهورها ونشأتها بحفر هذا المرفق التجاري العريق، والذي يزيد عمره اليوم على أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان.
يغفو سكان مدن بورسعيد والإسماعيلية والسويس، ويصحون كل صباح على وقع أصوات المراكب العابرة للقناة، في مشهد يومي اعتيادي، أسهم في ارتباط سكان هذه المدن على نحو وثيق بالممر الملاحي الأشهر في العالم، والذي يمثل أحد الشرايين الرئيسية لحركة التجارة العالمية، وهو الارتباط الذي يرصده المؤرخ الفرنسي الشهير «جيستاف نيقول» في كتابه النادر «رحلة الملوك» الذي صدرت طبعته الأولى في نهايات القرن الثامن عشر، منذ انطلاق أول ضربة فأس لشق القناة في 25 إبريل عام 1859 في بورسعيد، لوصل الشرق بالغرب، في عهد الخديوي إسماعيل، وكيف ولدت المدن الجديدة في الصحراء الجرداء على جانبي القناة، وقامت فيها الورش التي توضح نشاط السكان الذين استقروا فيها، بعد الافتتاح الأسطوري لهذا المرفق العالمي الكبير.
تروي أبواق المراكب التي تعبر قناة السويس في رحلاتها اليومية إلى الشرق والغرب، ذكريات تلك الأيام الخالدة في التاريخ، وكيف استبق احتفال مصر الخديوية الرسمي لافتتاح القناة احتفال ديني كبير على شاطئ مدينة بورسعيد، تضمن إقامة العديد من الشعائر والطقوس الدينية الإسلامية والمسيحية، عبر ثلاث منصات أنيقة، وهو الأمر الذي وصفته الصحف الغربية وقتها بأنه كان تعبيراً عن عظمة مصر التي أرادت من ذلك أن ترمز إلى الوحدة والإخاء بين البشر، حيث تلتقي العقائد للاحتفال معاً بمباركة حدث عظيم، وعمل كبير.
تعبر قناة السويس ما يزيد على عشرين ألف سفينة سنوياً، ما بين ناقلات حاويات عملاقة، وأخرى مخصصة لنقل البترول والغاز، وثالثة لمواد الصب، لكن ذلك لا يمنع مرور أنواع أخرى من السفن، مثل سفن الركاب واليخوت السياحية الضخمة، في رحلات دورية تمنح ركاب تلك السفن ميزة إضافية، بزيارة خاطفة لمصر،؛ إذ ترسو كثير من سفن الركاب على رصيف ميناء بورسعيد، ما يوفر للركاب فرصة للتعرف عن قرب إلى واحدة من أجمل المدن المطلة على بوغاز القناة، والقيام بجولة سريعة في أحيائها القريبة.
تستقبل القوارب السريعة التابعة لهيئة قناة السويس المراكب التي تصل إلى بوغاز مدينتي بورسعيد في الشمال، والسويس في الجنوب، لتصطحب تلك السفن من مياه الغاطس حتى البوغاز، ويقوم على ذلك مرشدون مصريون يتولون مهمة إرشاد السفن أثناء رحلة العبور، حيث يقوم طاقم الإرشاد الأول باصطحاب السفينة من مياه الغاطس على بعد أميال قليلة من حدود المياه الإقليمية المصرية حتى نقطة التبديل الأولى عند مدينة الإسماعيلية، ليتولى طاقم إرشاد جديد مهمة اصطحاب السفينة العابرة حتى حدود مدينة السويس، ليتولى طاقم ثالث إرشادها إلى حيث حدود المياه الإقليمية المصرية، بالتنسيق مع عشرات من نقاط المراقبة المنتشرة بطول مجري القناة الذي يبلغ نحو 190 كيلومتراً، وهو طول يزيد بنحو 26 كيلومتراً عن طولها الأصلي عند افتتاحها للملاحة البحرية؛ إذ كان طولها لا يزيد على 164 كيلومتراً، وعرضها عند مستوى سطح المياه لا يزيد على 52 متراً، فيما كان عمقها لا يزيد على 7 أمتار ونصف المتر، وهو ما كان يفرض على السفن العابرة ألاّ يزيد غاطسها على 22,5 قدم.
وقد ظلت الملاحة في القناة لا تتم إلا نهاراً فقط لأكثر من ثمانية عشر عاماً بعد الافتتاح، حتى أدخلت شركة القناة نظام الملاحة الليلية بعد ذلك، لتخضع بعد تأميمها عام 1956 للعديد من برامج التحسين والتطوير، التي استهدفت زيادة عمق القناة وزيادة عرضها عند القاع وزيادة القطاع المائي والغاطس المسموح به، قبل أن تتواصل عمليات التطوير لاحقاً.
قبل نحو عشر سنوات مضت، وصل غاطس السفن المسموح لها بعبور القناة إلى 66 قدماً، وهو ما جعل العبور آمناً للعديد من سفن الحاويات العملاقة، والتي تصل حمولاتها إلى نحو 17000 حاوية، إلى جانب جميع سفن الصب من مختلف دول العالم، التي يتم مراقبة تحركاتها أثناء عبور القناة، من خلال برج الإرشاد الرئيسي، الذي ينتصب علي شاطئ بحيرة التمساح في الإسماعيلية، والذي يرجع تاريخ إنشائه إلى منتصف ستينات القرن الماضي، وهو عبارة عن مبنى ضخم مكون من 13 طابقاً، ويصل ارتفاعه إلى نحو 47 متراً، تنتهي إلى برج مراقبة يرتفع بدوره لنحو عشرة أمتار أخرى.
يتولى نحو ثلاثمئة مرشد بحري قيادة السفن العابرة للقناة أياً كانت نوعيتها أو حمولتها، ويوفر هؤلاء المرشدون، ومعظمهم من ضباط البحرية المصرية، ملاحة آمنة للسفن العابرة، وضمان إبحارها في المسار الصحيح داخل الممر الملاحي، حيث يتلقى هؤلاء المرشدون دورات تدريبية مكثفة على الإبحار بالسفن في المجاري الملاحية الضيقة. وينتقل المرشد المكلف بالمهمة إلى ظهر السفينة عند اقترابها من مدخل القناة، ليتولى مهمة إرشاد طاقمها من داخل غرفة التحكم، ويتولى مع ربان المركب قيادة السفينة، وتفادي أي أخطاء من الطاقم قد تتسبب بتعطيل حركة الإبحار داخل المجرى الملاحي، وهو ما قد يؤدي إلى خسائر بملايين الدولارات.
ويقول القبطان نادر ناجي، وهو أحد أقدم المرشدين العاملين في القناة «قيادة السفينة في الأساس هي مسؤولية مباشرة للربان، لكن الوضع يختلف قليلاً في الممرات الملاحية الضيقة؛ إذ يكون الدور الرئيسي والقيادة في تلك الحالة للمرشدين المحليين، الذين يمتلكون خبرات أفضل».
تشهد القناة في بعض الأيام تزاحماً كبيراً في إعداد السفن العابرة، وقد تغلبت مصر مؤخراً على هذا التزاحم الذي قد يحدث في مواسم معينة خلال العام، بافتتاح تفريعة جديدة للقناة على مسافة 35 كيلومتراً، وهي عبارة عن ازدواج في منطقة تتوسط القناة، تسمح بعبور السفن في الاتجاهين، ما يقلل من وقت الانتظار.
* تصوير: أحمد شاكر