17 مايو 2023

د. حسن مدن يكتب: أوراق في الحقيبة

كاتب بحريني، يكتب زاوية يومية في جريدة "الخليج" الإماراتية بعنوان "شيْ ما"، صدرت له مجموعة من الكتب بينها: "ترميم الذاكرة"، "الكتابة بحبر أسود"، "للأشياء أوانها"، &a

د. حسن مدن يكتب: أوراق في الحقيبة

يحكى أن رجلاً وجد نفسه ذات مرة وهو مسافر في القطار في مقصورة واحدة مع الفنان العالمي الشهير بابلو بيكاسو، وما إن تيقّن الرجل من أن رفيقه في الرحلة هو بيكاسو، حتى قرر انتهاز هذه الفرصة الذهبية التي لن تتكرر فطلب منه أن يرسم له «بورتريه».

ويبدو أن بيكاسو لم يناقش طويلاً في الأمر، وشرع في تنفيذ الطلب، وما هي إلا دقائق حتى دفع له بورقة عليها «بورتريه» الرجل بريشته.

حدّق الرجل في الرسم سعيداً بما يرى، ثم سأل بيكاسو بامتنان: كم تريدني أن أدفع مقابل ما فعلت؟ أجاب الفنان على الفور: «عشرة آلاف دولار».

دهش الرجل وقال متلعثماً: كل هذا المبلغ لقاء خمس دقائق من العمل، فرد عليه بيكاسو: «نعم خمس دقائق، ولكن أضف إليها عقوداً من الخبرة».

لا غرابة ـ إذاً ـ أن يعتز الناس بخبراتهم. من رأى أكثر وخبر الحياة أطول هو ـ كقاعدة ـ أكثر قدرة على إجادة العمل من الشخص الذي «يلج» الصنعة للمرة الأولى، حتى لو كان موهوباً، فهذا الموهوب بحاجة إلى اكتساب الخبرة ممن هم أقدم منه، للإمساك بمداخل العمل أو الحرفة التي يفد إليها. وميزة الخبرة أنها تكسب المرء القدرة على المقارنة بين الحالات، فهو يقدّر السلوك المناسب إزاء كل حالة من واقع خبرته الطويلة.

وأصبح المرء مطالباً دائماً بأن يحمل في حقيبته نبذة ذاتية عن حياته العلمية والعملية، مرفقة بصور من الشهادات والمؤهلات التي نالها ودورات التدريب التي اجتازها، وكذلك شهادات من المؤسسات التي عمل فيها، ولأننا أميل إلى تقدير الكم أكثر من الكيف، تجري المبالغة في تعداد ما يحسبه المرء إنجازات حققها.

أمر هذه الأوراق لا يختلف كثيراً عن أمر النبذ التي تصادفها في الندوات أو اللقاءات أو المنتديات عن المشاركين فيها، حيث يعجز من أوكلت إليه مهمة تقديم أحدهم في ندوة أو محاضرة، وهو يتلو ما أمامه من «سيرة» لمن يقدّمه، والتي أسهب صاحبها في تعداد لا ما ناله من رتب أكاديمية فحسب، وإنما شهادات تقدير من الجهات التي شارك فيها في ندوات، وتعداد ما شارك فيه من مؤتمرات أو فعاليات، بينما نلاحظ، بالمقابل، أنه كلما علت المكانة العلمية والإسهام المعرفي للشخص، كلما قل عدد أوراق النبذة التي يوزعها عن سيرته، والعكس صحيح. فلو دققت في كثير من هذا «الكمّ» لوجدته لا يغني ولا يسمن من جوع.

لم يكن بابلو بيكاسو بحاجة إلى تعداد أسماء اللوحات التي رسمها ليفحم الرجل الذي رسم له «بورتريه». ومثل بيكاسو مثل أي موهوب، يكفيه أن يذكر اسمه من دون حاجة إلى «سي.في» تزكيه.