هم كريستوفر نولان في «أوبنهايمر» هو فك طلاسم شخصية تقف على الحافة بين الإعجاب والكره، وبين اعتزاز شخصيته الأولى، جوليوس أوبنهايمر، بمكانته وذكائه في مجال الفيزياء وبين شعوره بالأسى، بعدما تم سحب الترخيص الذي كان يتيح له الاطلاع على الأسرار في مختبر لوس ألاموس (في ولاية نيو مكسيكو) حيث قام بالإشراف على صنع القنبلة النووية، تلك التي أطاحت بهيروشيما وناكازاكي في مثل هذا الشهر من سنة 1945.
يتابع المخرج الفذ نولان بطله برسم شبه محايد، فهو في نهاية المطاف يريد الحديث عنه ومن الصعب الإعجاب به ومن غير المجدي مهاجمته. يحاول منحه شخصية حقيقية والممثل شيليان مورفي يؤديه كما يجب أن يؤدى: هادئ الطباع، متأمل وتفصيلي.
الفيلم من ثلاث ساعات ما يعني أن المشاهد أمام حالتين: إما أنه معجب بالفيلم لدرجة أن الساعات الثلاث تمر أمامه كما لو كانت ساعتين فقط، وإما هو من النوع الملول الذي سيشعر بثقل الوقت مهما كانت أهمية الحكاية التي تعبر الشاشة أمامه.
هذا الناقد من النوع الأول، لكنه يدرك أن القرار كان بيد المخرج نولان فيما لو أراد إيجاز الحكاية بعض الشيء. لكن نولان من النوع الذي تهمه كثيراً ظروف وشروط حياة شخصياته وأحداثها لدرجة أنه لن يتنازل عن التفاصيل وسيمنح العمل ما يستحقه من أحداث ومواقف بصرف النظر عن مدة العرض.
يبدأ الفيلم بكوابيس أوبنهايمر حول أمطار غزيرة تتساقط وينتهي بانفجار نووي كبير تتساقط حممه في مدار الشاشة. بذلك يربط المخرج بين كوابيس أوبنهايمر وبين وقائعه. لكن الفترة الفاصلة بين البداية والنهاية هي توطين لحكاية صعود العالم ثم هبوطه، وما مر في ذلك المجال من قضايا جعلته شخصاً يحاول الأف بي آي والكونغرس رصده وتبني الموقف منه. هل كان شيوعياً وتسلل إلى أهم وأخطر أركان الأمن القومي؟ هل ما زال يحتفظ بميوله الألمانية رغم أنه يهودي الديانة وذلك لأنه درس الألمانية وعاش هناك فترة من الوقت؟
لا ينبغي حرق الفيلم هنا بل يكفي القول بأن نولان يعرف كيف يسبر غور مثل هذه القضايا بمقدرة فنية عالية وبإدارة كاملة تعيدنا إلى سينما القصص الحقيقية وليس الفانتازيات التي تقدم عليها الاستوديوهات بكثرة هذه الأيام.
تمر الأحداث وسط غبار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتي (هناك فيلم تسجيلي عن هذا الموضوع بعنوان «جاسوس عاطفي» يقول إن إلقاء النووي على هيروشيما كان لتحذير روسيا)، وعلى خلفية العلاقات التي ربطت بين أوبنهايمر والمسؤولين الأميركيين مثل لويس شتراوس (روبرت داوني جونيور) الذي كن العداء لأوبنهايمر لأسباب مختلفة يوردها الفيلم تباعاً.
نولان يعرف كيف يمنح كل مشهد من مشاهد الفيلم عناية فنية خالصة ولو أنه في بعض الأحيان يميل إلى تكثيف مكونات المشهد تاركاً للمشاهد ربط تلك المكونات بالمشاهد السابقة واللاحقة. فعل يجعل المشاهد غير مرتاح خصوصاً وأن الموضوع الماثل معقد ومتشابك.