05 أكتوبر 2023

إنعام كجه جي تكتب: الحي أبقى من الميت

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

إنعام كجه جي تكتب: الحي أبقى من الميت

تقليعة جديدة وصلت إلى فرنسا آتية من الولايات المتحدة. إنهم أولئك المتطوعون الذين يزورون المقابر ويبحثون عن القبور العتيقة المهملة التي علا حجارتها السواد، فيبادرون إلى تنظيفها وتلميع رخامها وزرع الخضرة حولها. إن لهؤلاء المتطوعين موقعاً على الشبكة الإلكترونية، وهم يقومون بتصوير أنفسهم وهم يؤدون تلك المهمة، وينشرون التسجيل على الموقع. وأحياناً، يستدلون على صاحب القبر من خلال اسمه المحفور على الشاهد، ومن تاريخ ميلاده ووفاته، ويحاولون تقديم نبذة عن حياته وأعماله.

جهد يبدو حميداً رغم غرابته. فالقبور في فرنسا ليست أملاكاً دائمية بل يجب تجديد ملكيتها كل عشرة أعوام. أي أن يدفع ذوو المتوفي مبلغاً معيناً للحفاظ على القبر لفقيدهم لمدة عشرة أعوام أخرى. وفي حال التلكؤ عن التجديد يصبح من حق المقبرة بيع الموقع لشخص آخر. إن الموت كثير والمقابر تزدحم بسكانها. ويبدو أن أزمة السكن تلاحق المواطن المعاصر في الدنيا والآخرة.

هناك عيد سنويّ للموتى في فرنسا، يحلّ مع بداية الخريف، وفيه تذهب العائلات لزيارة موتاها حاملة أوعية فخارية أو بلاستيكية مزروعة بشتلات الزهر الطبيعي. وزهرة عيد الموتى هي «الكرزانتيم»، وهي ذات ألوان وأحجام متعددة، وفي بلادنا نسميها «الداؤودي».. تسألهم لماذا هذه الزهرة؟ يقولون لأنها تقاوم صقيع الشتاء.

في البرنامج التلفزيوني الصباحي المباشر على القناة الفرنسية الثانية، شاهدنا قبل أيام تقريراً عن أولئك المتطوعين الذين يصورون أنفسهم وهم يزورون القبور المهملة ويعتنون بها. كان ضيوف البرنامج يبتسمون بتعاطف حين خرجت واحدة منهم على الإجماع وتساءلت «أليس من الأفضل أن يزوروا آلاف المسنين في دور العجزة... إنهم ما زالوا أحياء على الأقل».

سكت الجميع وحلّ صمت ثقيل لعدة ثوان. إن الحي أبقى من الميت كما نقول في ثقافتنا. فالكل يعرف أن هناك وضعاً مؤلماً في فرنسا يتعلق بتراجع الخدمات في دور رعاية المسنين، وأن كثيرين من الرجال والنساء هناك يعيشون في انتظار النهاية دون أن يزورهم أحد من الأبناء أو الأقارب. لماذا لا نرى متطوعين يذهبون للقاء أولئك المنسيين، ساعة زمان، طالما أنهم ما زالوا يتنفسون ويشعرون ويفرحون ويتألمون ويحتاجون لمن يبادلهم الحديث؟ وليس من الضروري تصوير الزيارة ونشر التسجيل، يكفي أن تتم ولو بعيداً عن الكاميرا.
لكن ماذا تقول لعصر صار فيه موقع «تيك توك» بطل زمانه؟