19 أكتوبر 2023

إنعام كجه جي تكتب: الكتابة بيدين مكبلتين

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

إنعام كجه جي تكتب: الكتابة بيدين مكبلتين

أثلج صدري قرار هيئة الشارقة للكتب من معرض فرانكفورت. خطوة طبيعية لكنها كبيرة وسط ما يشعر به المواطن العربي من عجز إزاء الدماء التي تجري في غزة. وقد كنت أفكر، قبل التصاعد الخطير للأحداث، أن أكتب عن العجز، وعن العجزة، وأقصد به التقدم في السن وتراجع قدرات الجسد عن القيام بأمور كانت يسيرة من قبل.

اكتشفت أنني بت من الفئة التي يسمونها في فرنسا «تروازيام آج»، أي العمر الثالث. وهي لفظة مهذبة للدلالة على المسنين، بعد الستين. وجاء الاكتشاف لأنني صرت أتلقى في صندوق بريدي مجلة شهرية تناسب هذه الفئة من المواطنين. وتتنوع مواد المجلة ما بين النصائح الطبية ومواعيد النزهات المخصصة للكبار، والتخفيضات المقررة لهم في هذه المسرحية أو ذلك المتحف، وعموماً في فرنسا، حيث أقيم، بطاقة أشبه بجواز المرور، تسمح لمن كان في سني بأن يحصل على خصم في أسعار كثير من النشاطات الثقافية.

لكنني ما زلت أكابر. أرفض أن أنتمي إلى فئة العمر الثالث. أتطلع إلى جارتي المتقاعدة وهي تنزل لكي تمشي خمسة آلاف خطوة كل يوم، وأقول لنفسي إنني سأنزل من الغد لأمشي معها. سأستخدم هاتفي لحساب خطواتي وسأطمئن على دقات قلبي. ثم يأتي الغد وبغد الغد ولا أبارح موقعي أمام الحاسوب، أو أمام التلفزيون.

مع الحرب في غزة صرنا نعاقر التلفزيون ليل نهار. تمتلئ الأحشاء بالدخان وتتزاحم الأفكار للكتابة والنشر. ثم أجد يدي مغلولتين. ماذا تنفع سطوري ومقالاتي أمام هول ما يجري؟ إنه العجز النفسي الذي يوجع الضمير أكثر من تعب الساقين وتصلب الظهر. تصلني بيانات للتوقيع والتضامن وأخجل من إضافة اسمي إلى القائمة. كأني أسد رصاصة في القلب بقطعة قطن. لقد مرت علي طوال العقود الماضية مئات البيانات ونداءات الشجب والاستنكار وما بدلت تبديلاً.

وها نحن نرى العالم «المتمدن» يؤيد القتلة. وفرنسا تقمع تظاهرات من يطالب بالحقوق وتطبيق القرارات الدولية. لقد خرج الملايين يتظاهرون ضد غزو العراق، بلدي، لكن آلة الحرب مضت ودمرت الأخضر واليابس.

كيف تكون الكتابة بيدين مكبلتين؟ أن تجلس آمناً شبعان ريان وأهلك هناك يهيمون مع أطفالهم في العراء والظلمات. نعم هو العجز. وهو اللجوء إلى السماء في انتظار المعجزة. إذ لابد أن تكون هناك عدالة ما في مكان ما من هذا الكوكب. كوكب يسمونه الأرض. و«على هذه الأرض ما يستحق الحياة». أردد كلمات محمود درويش مثل تعويذة تطرد سوداوية اللحظة.