في منزل شربل سلامة.. متحف تراثي عن الحياة اللبنانية قبل قرن ونصف القرن
في الوقت والزمن الحاليين تبدلت حياة اللبنانيين لتصبح حياة تملؤها الصعوبات على اختلافها من معيشية واقتصادية ومالية وإنتاجية.. هي صعوبات غيرت في حيوات كل اللبنانيين حتى باتت التوترات النفسية سمة لا تستثني أحداً، إلا أن البعض لم ينقطع، رغم سيادة الظروف السيئة، عن ممارسة هوايته «التراثية» التي تحولت مع الوقت إلى عمل يثابر صاحبه على امتهانه والقيام به في كل الظروف.
أدوات حراثة
1000 قطعة تراثية وقديمة من صميم حياة اللبنانيين، تعود إلى قرن ونصف القرن تقريباً، دأب رجل الأعمال اللبناني، شربل سلامة، على شرائها من كل حدب وصوب على جميع الأراضي اللبنانية. وقد بذل سلامة الغالي والنفيس ليجدها طيلة 10 سنوات على التوالي، وبشق النفس جمعها في معرض تراثي وراح يعرضها في السنوات السبع الأخيرة مجاناً أمام الزوار الذين أقبلوا أفراداً وجماعات وعائلات ولبنانيين مقيمين ومغتربين وعرباً وأجانب لمشاهدتها ومعاينتها.
آلات النفخ الموسيقية
«كل الأسرة» زارت المعرض في منزل سلامة، في بلدة ميفوق في أعالي قضاء جبيل، والذي تحيط به الطبيعة الخلابة والخضراء والجبال والأودية من كل جوانبه. في هذا المعرض تجد نفسك أمام صورة مصغرة عن الحياة اللبنانية خلال سنوات القرن الماضي على الأقل، بيومياتها وبكل جوانبها، بدءاً من«النمليات» و«البرادات» وطلمبات سحب المياه من الآبار.
عدة طبيب الأسنان
في هذه الصورة تجد أيضاً الخزنات والتلفزيون بالأبيض والأسود والراديو مع الفونوغراف والبيانو وآلة القانون والدكتيلو وماكينات «الحساب على الصندوق» وأيضاً طباعة الجرائد وبصمات اليد، والهواتف والكاميرات، وأدوات الأطباء وغرف الطوارئ والعمليات الطبية مع أدوات أطباء الأسنان وماكينة تخطيط القلب.
مكنة تخطيط القلب
وهناك أيضاً أدوات الحلاقة والمزينين، وحصيرة «الكشك» وهو من أكلات المونة اللبنانية، وجواز السفر اللبناني العائد للعام 1927، وصندوق الفرجة وأدوات النول وفحص دواليب السيارات وشباك صيد الأسماك والطرابيش والقبعات...
منقل الفحم
وفي المعرض أيضاً منفخ على الفحم الحجري للحدادين كان يستخدم في أبرز الصناعات، إضافة إلى المخرطة وعدة البنائين واللحامين والحدادين والنجارين والموازين وأدوات الشوي وماكينة قصدير من الفخار، وماكينة للفواتير وسلال القش والمكاوي على البخار، وأباريق لليموناضة وسواها مع ماكينات لصناعة المكسرات والسحلب وعدة البن.
قرش مقدوح
وإلى جانب جنازير المساجين والغالات، يحتوي المعرض على ماكينات الأحذية وماكينة الـ «سنجر» الشهيرة للخياطة والتطريز، وأدوات الحراثة وأسرة النوم والكراسي، وسائر أدوات الاستخدام المنزلي بينها الملاعق والشوك والسكاكين والأوعية النحاسية والفخاريات والخوابي للأكل والمونة ولرش الأشجار والكبريت. وفي المعرض كذلك كل أنواع النقد الوطني الورقي والمعدني بينها القرش المقدوح.
صندوق الفرجة
لكل من هذه القطع حكايتها عند الإنسان اللبناني.. «صندوق الفرجة» مثلاً كان يعرف عند الأقدمين بالسينما المتجولة، وهو كان كناية عن صندوق خشبي كبير له ثلاث عيون مستديرة في جهاته الثلاث أما الجهة الرابعة فهي مغطاة بقطعة قماش سوداء يدخل صاحب الصندوق رأسه منها ويقلب الصور الموجودة في الداخل على غرار آلة السينما. وغالباً ما كان يحمل ثلاثة كراسي أو بنكاً ليجلس عليها المتفرجون. في المقابل فإن كاميرا التصوير كانت صندوقاً مغلقاً من جهاته الأربع، حيث كان المصور يضع رأسه داخله من الخلف، وفي الجهة الأمامية ما يشبه النفق المظلم وهو من القماش الأسود وفي مقدمته عين بلورية مغطاة تنزع عند التصوير.
اللبادة والطربوش
ويشير الباحث في التراث اللبناني، خليل مفرج، إلى أن اللبادة قبعة من الصوف مصنوعة بشكل بيضاوي كان القرويون يعتمرونها في المناسبات، وهي تصل حتى الأذنين حيث تلف بكوفية أو منديل من حرير لتثبيتها ومنع سقوطها في حفلات الرقص والهرج. أما الطربوش فكان وقفاً على سادة القوم (الأفندي والبيك والخواجة)، وهي ألقاب تركية منحها الحاكم أو السلطان لذوي الحظ من أبناء رعيته. ويوضح مفرج أن الطربوش نوعان: تركي ومصري، والأول أطول من الثاني وله من الخلف شرابة من خيطان سوداء ولونه أحمر أرجواني.
أما المنفخ، ودائماً حسب مفرج، فكان يتألف من خشبتين مبسوطتين يجمع بينهما جلد طري، استخدمه الحدادون والمبيضون لإضرام النار أثناء عملهم في تليين الحديد وتحمية الأواني النحاسية المنوي تبييضها، وكان له بوقان يخرج منهما الهواء الذي يساعد على تأجيج النيران، وكانت له من الخلف مسكتان خشبيتان كانتا وسيلة النفخ وضغط الهواء إلى الخارج.
طلمبة مياه
ويستمر مفرج في التعداد فيقول إن قالب «اللبن»، أو الطوب، كان صندوقاً من حديد استخدم في صناعة أحجار البناء التي كانت مكونة من خلط الترابة والحصى والرمل بدل أحجار الكلس والرمل والقش التي كانت المنازل تبنى بها، وكان لهذا القالب غطاء لكبس الخليط حتى يتماسك. بيد أن طلمبة المياه استخدمها الأقدمون لرفع المياه من الآبار الارتوازية لري المزروعات وتأمين مياه الشفة للسكان.
عدة مسح الأحذية
ويلفت مفرج إلى أن مسح الأحذية كان من المهن التي عرفها اللبناني منذ القدم، وكانت تتمثل في تنظيف الحذاء أو دهنه أو تلميعه مقابل أجر يدفعه خصوصاً الأفندي والبيك والخواجة لماسح الأحذية. أما عدته فكانت صندوقاً خشبياً يحمله البويجي (وهي كلمة تركية) وفي داخله فرشاة وحنجور بويا أسود وآخر بني وعلبة دهن اللوز للتلميع مع قطعة قماش.
مكواة على الفحم
ويستطرد مفرج أن أجدادنا عرفوا المكواة الحديدية منذ القدم، وكانت عبارة عن مثلث زاويته الأمامية حادة، أما الزاويتان الأخريان فكانتا قائمتين ويوضع فيها الفحم الحجري مشتعلاً، وكانت لها مسكة خشبية على ظهر الغطاء.
القبان والميزان
آلات النفخ الموسيقية، من خلال ما نراه في المعرض أيضاً، كانت نحاسية ولها أزرار ومفاتيح مقسمة حسب نوتات السلم الموسيقي، وهي ما زالت تستخدم حتى اليوم بأنواع عدة. وأيضاً القبان وهو آلة حديدية اعتمدها اللبناني في وزن الأجسام الثقيلة، ولا يزال يستخدم في بعض البلدات والقرى النائية حتى اليوم، فيما كان الميزان كناية عن كفتين حديديتين معلقتين على قضيب من حديد. أما «محمص البن» فكان كناية عن مجمع أسطواني الشكل مثقوب الطرفين يخترقه قضيب رفيع من الحديد، على أحد طرفيه قبضة خشبية يدار بها لتقليب البن على النار حتى ينضج.
وفي معرض الشرح، يعتبر مفرج أن قراءة التاريخ، مع الإصغاء إلى الذكريات، تثير فينا حنيناً ويقظة وجدان مثلما تثيره وثائق ويوميات وأمكنة وأوان استخدمناها فألفناها ولا تزال ظلالها وأصداؤها تتردد في حنايانا وعلى دروبنا، كما يؤكد أن العمل التوثيقي يبقي ذاكرتنا حية وأمينة على موروثنا الحضاري، مضيفاً «هنا يصدق القول المأثور (الأموات يعلمون الأحياء)».
في هذا الإطار يؤكد سلامة لـ «كل الأسرة» أن الجميع يثنون على ما أنجز وعلى أهمية القطع المعروضة، وهو مستمر في استكمال ما يحلم به وما يتطلع إليه على هذا الصعيد، إذ سينكب على الوصول إلى إقامة متحف تراثي لكل هذه القطع، ولما سيجمع تباعاً، من ضمن بناء تراثي قديم سيشيد في ميفوق وسيقدم صورة حية عن الحياة اللبنانية قبل قرن ونصف القرن تقريباً، آخذاً في الاعتبار أن خطوة جبارة مماثلة تقتضي الالتزام بمعايير المتاحف عالمياً، وعلى غرار ما تقترحه المنظمات الدولية وعلى رأسها اليونسكو.
* بيروت: شانتال فخري
إقرأ أيضاً: مسجد شكيب أرسلان في لبنان.. رسالة سلام وتعايش معمارية