9 نوفمبر 2023

يعاود الحضور بعد 43 سنة من رحيله.. هيتشكوك في كتب وتظاهرات شرقاً وغرباً

ناقد ومؤرخ سينمائي

ناقد ومؤرخ سينمائي، وُلد وترعرع في بيروت، لبنان ثم هاجر إلى الغرب حيث ما زال يعيش إلى الآن معتبراً السينما فضاء واسعاً للشغف

يعاود الحضور بعد 43 سنة من رحيله.. هيتشكوك في كتب وتظاهرات شرقاً وغرباً

يقوم معهد الفيلم الكندي في تورنتو بعرض سبعة من أفلام المخرج ألفرد هيتشكوك هي: «سايكو» و«الطيور» و«جنون» و«ربيكا» و«الدرجة 39» و«الحبل» و«فرتيغو».

في باريس تمت إقامة شهر كامل لأفلام المخرج الذي اعتمد التشويق عنواناً كبيراً لكل فيلم قام بإنجازه، ضمت الأفلام المذكورة أعلاه لجانب أفلام أخرى مثل «السيدة تختفي» و«شمال، شمال غرب» و«المخرب»، وهي أفلام تشمل مراحل مختلفة من سنوات المهنة الهيتشكوكية.

يعاود الحضور بعد 43 سنة من رحيله.. هيتشكوك في كتب وتظاهرات شرقاً وغرباً

وعلى صعيد آخر، هناك كتاب جديد سيصدر مع مطلع العام المقبل بمناسبة 125 سنة على ولادة المخرج الفذ كتبه الناقد ديفيد تومسون. وسيصار لإعادة طبع كتابين كانا صدرا سابقاً أحدهما ذاك الكتاب الشهير الذي ضم مقابلة المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو مع هيتشكوك والثاني للناقد الراحل روبين وود الذي عرف بسعة معلوماته وسداد رأيه بالنسبة لأفلام هذا المخرج.

لا نجد هذا متوفراً في المكتبات العربية عن مخرجين عرب ولا تعرض أفلام القمة بينهم، مثل أفلام صلاح أبو سيف وأفلام كمال الشيخ وأفلام سعيد مروزق أو يوسف شاهين، في أي تظاهرات جانبية. لكنهم هناك لا ينسون والسوق التجاري يستوعب والإقبال على أفلامه لا يتوقف في الغرب على جيل أو جيلين سابقين، بل على الجيل الجديد الذي يريد أن يتعرف إليه.

هيتشكوك مع بعض فريق عمل فيلم «الطيور»
هيتشكوك مع بعض فريق عمل فيلم «الطيور»

بين أفلامه التي بلغت ستين فيلماً من العام 1925 وحتى آخر فيلم له سنة 1976 أعمال قممية، من بينها وأشهرها فيلم «سايكو» (1960) و«فرتيغو»(1958) و«الطيور (1963)» وكل منها يختلف عن الآخر في الممثلين وطبيعة الحكاية، لكنه يلتقي معها جميعاً في تحويل التشويق والرعب إلى متعة فنية كبيرة.

في ستينات القرن الماضي كانت الطرق التي تربط مدينة أمريكية بأخرى تبدو، من نظرة علوية، كما لو كانت افتتحت بالخطأ.. قليلة هي السيارات التي تمر فوقها.. قليلة هي البلدات التي تمر بها.. قليلة هي الحياة التي تمر عبرها.

يعاود الحضور بعد 43 سنة من رحيله.. هيتشكوك في كتب وتظاهرات شرقاً وغرباً

حادثة حقيقية في الطفولة زرعت الخوف في هيتشكوك

في «سايكو» الكثير مما يستطيع المرء استلهامه من خيوط وحيثيات لجانب القصة المكتوبة بعناية والمستلهمة من واقعة حقيقية. نتعرف إلى الممثلة جانيت لي تقود سيارتها هاربة من مدينة فينكس بما سرقته من مال الشركة التي تعمل فيها. إنها بطلة الفيلم، وأن تكون مجرمة في فيلم يحققه هيتشكوك أمر مفاجئ بالنسبة لكونها نجمة. لذلك نراها وقد أخذت تفكر في عاقبة ما قامت به (على الرغم من بعض الحوافز التي يمكن الاستناد إليها كتبرير لما قامت به)، لكن تحقيق هذه الانعطافة لن يتحقق.

كانت قادت سيارتها نهاراً إلى أن وصلت إلى فندق منبسط من طابق واحد يديره شاب (أنطوني بيركنز) ليلاً فقررت المبيت فيه. تدخل حمام شقتها. تدخل عليها امرأة. لا نراها مطلقاً لكن هناك طيفاً شبحياً لها وينهال عليها طعناً بسكين طويل.

تخرج المرأة. يدخل الشاب وينظر وراءه: «ما... لماذا فعلت ذلك؟». لاحقاً ما نعرف أن الشاب وأمه جسد واحد.

هذا هيتشكوك في واحد من قممه ولديه أخرى، لكن بعض المختلف هنا كان شديداً: «سايكو» كما لم يشبه فيلم رعب آخر في التاريخ، لم يشبه أي فيلم آخر لهيتشكوك أيضاً. سببان لذلك: قتله بطلة الفيلم (عادة ما تعيش المخاطر حتى لما بعد انتهاء الفيلم) وغياب المتهم-البريء.

كان هيتشكوك، المولود في منتصف سنة 1899، ما زال في الرابعة عشر ةمن عمره عندما كتب والده الكاثوليكي المتزمت رسالة إلى صديقه رئيس الشرطة في أحد ضواحي إيست لندن طالباً منه حبس ابنه في زنزانة لخطأ لا يستدعي العقوبة.

لن ينسى هيتشكوك هذه الحادثة التي ارتكبت بحقه. الخوف الذي تعرض إليه من دون فهم لحقيقة ما حدث ولماذا. لاحقاً ما تسببت في صياغة بعض موهبة هيتشكوك فإذا به يدفع إلى الأمام في غالبية أعماله لما قبل «سايكو» بتيمة المتهم- البريء الذي لم يرتكب ذنباً والذي تطارده الشرطة باحثة عنه.

بعد وفاة والده، ترك ألفرد الدراسة الكاثوليكية ودخل معهداً لدراسة الهندسة الميكانيكية التي كان أبدى شغفاً بها منذ صباه، ثم اتجه إلى العمل في شركة لأعمال الكايبل والتلغراف اسمها «هانلي» كما دخل مدرسة أخرى بعد الدوام حيث ألم بالرسم والهندسة ما جعله يقترح للشركة استخدامه في مجال تصميم الدعايات.

من فيلم «النافذة الخلفية»
من فيلم «النافذة الخلفية»

هيتشكوك والسعي نحو تكوين عائلة

بعد عام على اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 طلب هيتشكوك للتجنيد، لكنه أعفي بسبب بدانته. ذات يوم تعرضت ضاحية ليتونستون التي كان يعيش ألفرد فيها مع والدته لغارات الطيران الألماني. دمار شديد وإحدى القنابل لم تكن بعيدة عن بيته. هرع لتفقد والدته فوجدها في حالة رعب شديدة.

ضع هذه الصورة التي حفظها هيتشكوك طوال حياته في البال عندما تشاهد بطلاته الخائفات وهن يصرخن في حالة هلع طالبات النجدة. إنها علامة أخرى من علامات التأثر الذي صاحب المخرج وميز أفلامه كما الحال مع حبكتي «المتهم البريء» وعقدة الذنب اللتين نجدهما في مختلف أعماله مباشرة أو تحت خط المباشرة في إيحاء مثير.

إلى ذلك، نكتشف أن وجود العائلة في الفيلم ميز أعمال هيتشكوك عن الأفلام البوليسية الأخرى، حيث البطل عادة ما يكون شخصاً وحيداً لا علاقات عائلية له حتى تتمكن القصة المروية من حصره في الموقف المطلوب بذاته ومن دون روابط. لكن حتى في أفلام هيتشكوك التي حوت شخصية رئيسية لا عائلة بادية من حوله، كما الحال في «شمال، شمالي غرب»، فإن سعيه للارتباط بعلاقة عاطفية جادة هو سعي لتكوين عائلة. بطله في ذلك لا يختلف عن معظمنا. هذا وضع أساسي في أفلام كثيرة له منها «النافذة الخلفية» و«ربيكا» و«غرباء في القطار» لجانب «شمال، شمالي غرب».

يعاود الحضور بعد 43 سنة من رحيله.. هيتشكوك في كتب وتظاهرات شرقاً وغرباً

كيس بطاطا.. مثال على براعة وموهبة هيتشكوك

ما يختلف فيه هيتشكوك عن آخرين عمدوا إلى سينما التشويق واللغز كثير. هو النموذج الأفضل للنوع بأسره، لكن من بين تفاصيل هذا الاختلاف حقيقة أنه كان دائماً يجهر بمن هو القاتل الفعلي، على عكس الأفلام التي تخفيه وتعامله لغزاً، من دون أن يفقد التشويق قيد أنملة من مفاجآته.

«سايكو» إذ جاء مختلفاً، كذلك «فرتيغو»، 1958 و«الطيور» 1963 و«حبكة عائلية» وهو فيلمه الأخير (1976) الذي ووجه بنقد شديد من قبل النقاد حين تم تقديمه على شاشة مهرجان «كان» في تلك السنة، لكن النظرة إليه تبدلت بعد ذلك وما زالت إلى اليوم.

«فرنزي» (فيلمه ما قبل الأخير وحققه سنة 1972) حمل آخر عناقيد تفعلية المتهم-البريء والقاتل-الذي نعرفه- ولا يعرفه هو. جون فينش هو العامل في سوق الخضار جنباً لجانب صديقه باري فوستر الذي يرتكب الجريمة، وهيتشكوك يمنح المحقق العجوز أليس مككوون مشاهد ساخرة خارج نطاق القضية. مشاهد لدراسة سلوكية تمنح المشاهد بعض البسمة المتوترة.

مشهد الجريمة خنقاً واستخدام سلالم المبنى اللولبية (السلالم عقدة أخرى من عقد المخرج في أفلامه نراها كذلك في «سايكو») كشريك في حالة نفسية متوترة من تلك التي تدرس كنموذج لكيفية تصميم المشاهد وتوليفها. وإذا ما أضفت مشهد نقل الجثة في أحد أكياس البطاطا إلى شاحنة بعدما اكتشف القاتل أن يد الضحية تقبض على دبوسه المميز، خرج المشاهد من ذلك الفيلم وهو يختم بالعشرة على سنوات من الخبرة التي لا مثيل لها ولن يكون.

هيتشكوك لم يكن صياغة صدفية تمت عن طريق دراسته المتخصصة في أحد المعاهد الكبيرة التي يتخرج منها اليوم المئات، بل كان- كباقي عباقرة الفن السابع- موهبة اكتملت بفهم كامل العلاقة بين الصورة والمتلقي وكيف يمكن للمخرج توظيفها بحيث يوجه الثاني ليصعد معه في رحلة لا يدري وجهتها لكنه سيجد نفسه في مقعد أمامي طوال الوقت.

 

مقالات ذات صلة