صندوق «الفراشات»
ليس أصعب وقعاً على النفس من رؤية طفل يتعذب. ومع تقدّمي في السّن صرت لا أحتمل منظر والدة تضرب طفلها، وهما في السوق. إنه يبكي وهي تريد إسكاته. ولعله متعب، وجائع، وعطشان، أو محصور يريد أن يقضي حاجته، لكنها تتعامل معه من دون رحمة.
تطلع علينا مواقع التواصل، بين حين وحين، بتسجيلات لمعلّم، أو معلّمة، يضرب التلاميذ الصغار بالمسطرة على أيديهم. يقف الطفل أمامه والهلع في عينيه، يتقدّم، ويتراجع. ينتظر الألم الآتي وهو يغالب دمعة تجرح كرامته. يقولون لنا إن الإدارة التربوية رأت التسجيل، واتخذت إجراء في حقّ المعلّم.
كنت أسمع من كبار السّن في بلادنا، أن الوالد كان يأخذ ابنه إلى المُلّا لكي يعلّمه القراءة ومبادئ الدين. يقول الأب للشيخ المعلّم: «كن قاسياً معه أشدّ القسوة.. اضربه بالخيزرانة إذا سها وأغفى. اجعل منه رجلاً»!
بعد ذلك انتشرت المدارس، وتطوّرت أساليب التعليم. ما عاد العقاب الجسدي مقبولاً في الصفوف، لكنه لم ينتهِ تماماً. يحدث أن يعود التلميذ إلى البيت بعين متورّمة، أو انتفاخ في الكاحل. ينفطر قلب الأم، لكن الأمر لا يتعدى العتب الشفوي في حضرة المدير، أو المديرة.
في معظم دول الغرب هناك قوانين تمنع الضرب في المدارس. بل إنه مستهجن في البيت أيضاً. وتحثّ المادة 40 من قانون العقوبات الفرنسي كلّ موظف في الدولة على التقدم ببلاغ في حال كان شاهداً على تعرّض طفل قاصر لسوء المعاملة، وذلك في إطار ممارسته لوظيفته. من واجب الطبيب الذي يلحظ كدمات أو علامات زرقاء على جسم طفل مريض بالزكام، أو بأي عارض آخر، أن يبلغ الشرطة بملاحظته.
قبل فترة قامت جمعية فرنسية بوضع صناديق للبريد ذات لون مميز، في عدد من مدارس شمال العاصمة، وهي في الأغلب مناطق شعبية تنتشر فيها مساكن المهاجرين، وذوي الدخل المحدود. اسم الجمعية «الفراشات». والهدف منها أن تكون متنفساً لرسائل أطفال يعانون من سوء المعاملة داخل الأسرة.
فتحوا الصناديق واطّلعوا على الرسائل. كانت هناك واحدة جاء فيها ما يلي: «بابا يضربني. وهو يؤذيني وأتعذب كثيراً. إن جسمي متورم فعلاً». لاحظ قارئ الورقة أنها مكتوبة بخط طفولي مرتبك وبأغلاط في الإملاء. لكن الرسالة وصلت. وكان من الواضح أن الطفل تجرأ على كتابة ما لا يستطيع أن يصرّح به بالكلام. وتمت إحالتها إلى المشرف التربوي لاتخاذ اللازم، بالتعاون مع مركز شرطة المنطقة.
ستون رسالة في الشهر الأول للتجربة. معظمها من دون ذكر الاسم. وبالتالي يصعب الوصول إلى صاحبها ومساعدته. أما تلك التي تحمل اسماً وعنواناً فقد كشفت عن حقائق لا تخطر على البال. فأحد الآباء المعتدين كان ضابطاً في الشرطة، وأب آخر مستشار في بلدية المنطقة.
صار اسم الصناديق «رسائل الفراشات». فالفراشة، هذا المخلوق الشفاف الجميل، لا يملك الدفاع عن نفسه مثل باقي الحشرات سريعة الحركة والاختباء. كانت هناك وريقات تتضمن ما هو أفدح من الضرب، والعضّ، واللّطم، والجَلد بالحزام. تشتكي بنت في الثانية عشرة من تحرّش أحد الأقارب بها. إنها تصف بعبارات خجلى ما لا يمكن لها البوح به لوالدتها، أو لأبيها، خشية العقاب، أو تصدّع العائلة.
سيقول قائل إن الآباء والأمهات في تلك المناطق الشعبية يمرون بظروف صعبة. بينهم العاطل الذي لا يجد عملاً، ومن هو مدمن، ومن هو سكّير. ومعظم الأمهات أميّات ويشتغلن في أعمال الخدمة. يرجعن إلى بيوتهنّ منهكات، ولا يعرفن غير الشتيمة ورشق النعال أسلوباً للتعاطي مع الأولاد. والمثل عندنا يقول: «أبي لا يقدر إلا على أمّي». ويمكن أن نضيف إليه: «وأمّي لا تقدر إلا عليّ».