تعيدنا الرسائل القديمة التي قد نكون نسينا أمرها مع مشاغل الحياة، وصخب ما فيها من مهام ومتاعب، إلى أزمنة أصبحت ماضياً، بحلوها ومرّها، بما كان لها، وما كان عليها، كأن هذه الرسائل توقظ ذاكرة هجعت طويلاً، وحسبناها لن تصحو ثانية. لنجد أن كل ما في الأمر أنها كانت بحاجة لمن، أو ما يوقظها، كما تفعل تلك الرسائل القديمة التي قد نعثر عليها مصادفة في بعض الأحيان، بين حزمة أوراق، أو في كتاب أودعناها بين صفحاته ونسينا أمرها.
بين أوراق قديمة وجدتها في ملف محفوظ، رسالة أرسلت إليّ تعليقاً على مقالٍ كنتُ نشرته قبل نحو عشرين عاماً حول الرسائل. فعلت ما نفعله مع رسائل قديمة حفظناها لنعود إليها، لأننا وجدنا فيها ما يستحق الحفظ والعودة إليه، أسرني هذه المرة أيضاً، وأنا أعيد قراءة الرسالة، ما حوته من أقوال وتأملات حول الرسائل كتبت ببساطة وعمق. فقررت مشاركتكم بعض ما حوته، مع الإشارة إلى تدخل طفيف جداً مني في ضبط بعض الصياغات، مع الإبقاء على كامل المفردات كما وردت في الرسالة.
الرسالة هدية لطيفة مصنوعة باليد خصيصاً، وموضوعة داخل ملف جميل ومكتنز، تطرق أبواباً، وترحل مسافات بعيدة لتوصل أشواقاً لا يمكن لإنسان خجول أن يقولها ويفصح عنها عبر الهاتف، أو في اللقاء المباشر وجهاً لوجه. نحن الأشخاص الخجولون نحتاج إلى كتابة الرسائل بين الحين والآخر، وإلا نذوي ونختفي من الوجود. هناك الكثير منا لا يستطيعون أن يعبّروا بجرأة عما يريدون، فيجلسون أمام الورقة بهدوء.. بسكون، فنتحدث إلى الورقة بحرية وانطلاق، شاعرين بقرب من سنرسلها إليه، حتى لو بعدت بيننا وبينه المسافة.
أفضل الرسائل هي تلك التي تُكتب على عجل.. الرسائل العفوية التي تكتب في ومضة وحي، لا يهتم كاتبها بالإملاء، ولا الصرف، ولا النحو. رسائل مثل هذه تأتي صادقة ومتدفقة.. سطور قليلة توجز قِطعاً أدبية من حيث جمالها، وبساطتها.
أجمل الرسائل هي التي تكتب على ورق صغير الحجم، فالمساحات الواسعة تحتاج لقول أشياء كثيرة، قد لا تجود بها القريحة.
الرسائل ليست فقط بوحاً للآخر. هي أيضاً اكتشاف للذات، حين تترك لنفسك أن تقول ما تشاء بحرية. هنا دع الرسالة تكتمل، ولو على مهل، لتفصح عن كل ما يجول في الخاطر من أحاسيس، وعواطف، واضطراب، وتشوّش وغضب، وانفعال، وحب. من يقرأ رسالة مثل هذه سيجدها جميلة، وحين يقرأها بعد سنوات، قد يجدها صارت أجمل. وبعد أجيال سيجدها الأحفاد مخبّأة في صندوق، وسيقرأونها كذكرى طيّبة من الماضي، تعطيهم فكرة واضحة، وربما صاعقة، عن الحياة التي كانت.
لا نستطيع أبداً استرجاع اتصال هاتفي جميل بعد سنين عدة، ولكن كم منّا أدهشته رسالة قديمة مخبّأة أرجعت إليه ذكريات صارت في طي الكتمان.
أقسى ما في أمر الرسالة هو كون كاتبها يتوقع أنه لن يحظى بردٍّ ممن كتبها إليه.