ظل الإنتاج العربي من الرسوم المتحركة قليلاً جداً، حتى نهاية الألفية الثانية، حيث الاعتماد بشكل كبير على أفلام ومسلسلات التحريك الأجنبية، وتحديداً من هوليوود، حتى شهدت الرسوم المتحركة العربية، في السنوات الأخيرة، طفرة ملحوظة، ومع ذلك تبقى هناك تساؤلات عدة حول هذه الأفلام، وعلامة استفهام كبيرة حول حاضرها، ومستقبلها.
ربما لا يزال كثيرون في عالمنا العربي ينظرون إلى الرسوم المتحركة على اعتبار أنها مجرد برامج ترفيهية للتسلية، يستمتع بها الأطفال، وأحياناً الكبار، في الوقت الذي نظر فيه الغرب، مبكراً جداً، إلى هذا الفن على أنه صناعة ضخمة قائمة بذاتها، لها أدوار كبيرة، ومهام عدة، من بينها تربوية، إعلامية، ترويجية، وتوجيهية، فضلاً عن أن دورها الاقتصادي مهم، فاهتموا بها وخصصوا لها ميزانيات ضخمة، وشاركت في تقديمها أصوات كبار نجوم هوليوود، والعالم.
ورغم تراجع أرباح أفلام الرسوم المتحركة في هوليوود، بين عامي 2021 و 2022، بسبب وباء «كورونا»، إلا إن هذه الصناعة استطاعت العودة بسرعة، مع مطلع العام الجاري 2023، وحققت أرباحاً تخطّت 22 مليار دولار، حتى سبتمبر الماضي، في الوقت الذي أشارت فيه شركة «ديزني»، إحدى أهم وأضخم شركات أفلام التحريك في هوليوود، والعالم، إلى أن أعداد المشتركين في خدمة البث «ديزني بلس» زادت لتتخطى 150 مليون مشترك، وتتوقع أن يصل عددهم إلى 225 مليون بنهاية عام 2024، فضلاً عن الأرباح التي تحققها الأفلام من العرض العام على مستوى العالم.
بداية مبكرة للرسوم المتحركة في العالم العربي .. وتراجع سريع
جاءت المحاولة الأولى لتقديم أول عمل رسوم متحركة في العالم العربي في مصر خلال عام 1935، على يد رائد فن التحريك «أنطوان سليم»، غير أن المحاولات ظلت تسير على خطى ديزني، حتى جاءت تجربة جديدة في العام التالي 1936، على يد ثلاثة أشقاء مصريين من أصل روسي «الأخوة فرانكل»، ورغم محدودية إمكاناتهم التقنية، إلا أنهم تمكنوا من إنتاج العديد من الأعمال، وترسيخ شخصية كرتونية باسم «مشمش أفندي»، لتكون أول شخصية كرتونية مصرية عربية.
لتتوالى بعده الأعمال بالشخصية المبتكرة التي توغلت في الحياة الاجتماعية المصرية، من تأليف الكاتب المصري بديع خيري، فقدموا أفلام «الدفاع الوطني، بالهنا والشفا»، فضلاً عن مجموعة من الأفلام لوزارة الزراعة المصرية، كما قدموا أفلاماً تحتوي على الموسيقى والغناء، واستمروا حتى عام 1947. وبسبب هجرة «الأخوة فرانكل» من مصر، توقفت أعمال التحريك، إلى أن جاء الفنان المصري «علي مهيب»، رائد فن التحريك في مصر والشرق الأوسط، والذي أسس أول استوديو للرسوم المتحركة في الشرق الأوسط في عام 1961، ليقدم فتحاً عربياً جديداً في عالم الرسوم المتحركة، عبر مجموعة من أعمال التحريك بنكهة مصرية عربية، ربما كان أبرزها «السندباد البحري»، حيث لاقت هذه الأعمال سرعة انتشار واسعة، لمقدرتها على مخاطبة الصغير والكبير، ونقل الأفكار، وتعميمها بأبسط الأشكال، وأوضحها.
«بكار» ثنائي الابعاد
وخلال حقبتي الثمانينات والتسعينات، أخذت الرسوم المتحركة أبعاداً جديدة ومتطورة، خاصة بعد تقديم العديد من الأعمال ما بين ثنائية الأبعاد (2D)، أو ثلاثية الأبعاد (3D)، فيما بعد، من بينها المسلسل الأشهر في تاريخ أعمال التحريك المصرية والعربية «بكار»، الذي بدأ عرضه في التلفزيون المصري منذ عام 1990، وحقق جماهيرية واسعة، على يد مخرجته ومصممة شخصية «بكار»، الفنانة منى أبو النصر، التي رحلت في عام 2003، فحمل ابنها المخرج، شريف جمال، مسؤولية إخراج المسلسل حتى توقفه عام 2007، قبل عودته مرة أخرى في عام 2015 لكن في نسخة ثلاثية الأبعاد.
«قصص الإنسان في القرآن»
وجاءت الألفية الجديدة لتحمل تطوراً هائلاً في التقنيات والتكنولوجيا المتطورة التي ساعدت بشكل كبير على إنجاز العديد من الأعمال بشكل أسرع، ربما من أشهرها سلسلة قصص القرآن الكريم، فتم تقديم مسلسل «قصص الحيوان في القرآن الكريم» 2011، و«قصص الإنسان في القرآن» 2012، و«عجائب القصص في القرآن» 2014، و«قصص الآيات في القرآن» 2015، للكاتب محمد بهجت، والمخرج مصطفى الفرماوي، أيضاً مسلسل «بسنت والدياسطي» الذي قدم منه أكثر من موسم، ومسلسل «القبطان عزوز».
مشهد من «الفارس والأميرة»
أفلام الرسوم المتحركة العربية .. مستوى عالمي ينقصه التمويل
رغم كل هذه الأعمال الناجحة، إلا أنه لم يتم التفكير في تقديم فيلم تحريك مصري طويل حتى عام 1997، عندما قرر الكاتب بشير الديك، تقديم فيلم «الفارس والأميرة»، ويقول الكاتب والمخرج بشير الديك «كان المقترح أن أقوم بكتابة الفيلم، على أن يخرجه حسيب، وتفاوضنا مع المنتج عباس بن العباس، الذي وافق على الفكرة، ثم بدأنا العمل لمدة عامين، بعدها توفي حسيب، رحمه الله، فاتفق المنتج معي على إخراج العمل إلى جانب كتابته، لكن منذ أواخر التسعينات، توقف العمل في الفيلم لظروف إنتاجية تتعلق بالتمويل، وكنا نعمل على فترات متقطعة، كلما أمكن ذلك، حتى اكتمل أخيراً، بميزانية بلغت 10 ملايين جنيه مصري، في وقتها، ليخرج الفيلم للنور في عام 2020، بعد عمل أستغرق ما يقرب من 23 عاماً!».
مسلسل «يحيى والكنوز»
ماهر دانيال، مخرج الرسوم المتحركة في التلفزيون المصري، والذي قام بإخراج 60 حلقة من مسلسل «زقزوقة» لموسمين رمضانيين متتاليين، كما أخرج مسلسل التحريك «ابلة فضيلة» لقطاع القنوات المتخصصة، يبيّن «يعتبر استوديو مهيب مدرسة درّبت العديد من الكوادر في هذا المجال، الذين أصبحوا أساتذة الرسوم المتحركة المصرية فيما بعد، وبعدهم جاء جيل تالٍ لهم، وكان دخل هذا الاستوديو يعتمد بصفة أساسية على استخدام الرسوم المتحركة في مجال الإعلان، إضافة إلى أن علي مهيب، هو أول من أنشأ قسم الرسوم المتحركة في التلفزيون المصري، حيث واجه العديد من العوائق، حتى أنشأت كلية الفنون الجميلة، بعد ذلك، شعبة الرسوم المتحركة، وكذلك قسم الرسوم المتحركة في المعهد العالي للسينما بأكاديمية الفنون، خاصة أن أعمال التحريك لم تجد رواجاً لها عند الأطفال فقط، بل أصبحت أيضاً ظاهرة اجتماعيّة، أثارت اهتمام علماء التربية والاقتصاد».
لدينا فنانو تحريك على مستوى عالٍ جداً ينقصهم التمويل فقط
ويؤكد دانيال «خلال السنوات الأخيرة، ظهرت أجيال جديدة مع تكنولوجيا حديثة في مجال التحريك والجرافيك، مثل «استوديو سمكة»، الذي يضم مجموعة من فناني التحريك على مستوى عالٍ جداً، ينافس المستوى العالمي، ربما ينقصهم التمويل فقط لإنتاج أفلام تحريك تنافس أهم الأعمال العالمية، فالتمويل هو العائق الوحيد أمام تقديم أعمال عربية قادرة على المنافسة في الأسواق المحلية والعالمية».
من جهته، يوضح الناقد السينمائي طارق الشناوي «الرسوم المتحركة صناعة معقدة وصعبة، والأهم أنها مكلفة للغاية، فإنتاج فيلم رسوم متحركة يحتاج إلى وقت طويل، لا يقل عن عامين، وكلفة لا تقل عن 3 ملايين دولار، ويمكن أن تتخطى 30 مليون دولار، مثل فيلم «بينوكيو» الفائز بالأوسكار مؤخراً، كأفضل فيلم تحريك، تخطت ميزانية إنتاجه 35 مليون دولار، لكن في المقابل تخطت إيراداته مليار دولار!. ونحن لا تنقصنا الإمكانات الفنية، أو التقنية، والتكنولوجيا أصبحت متاحة وفي المتناول، ونستطيع أن نقدم أعمالاً روائية طويل على مستوى عالمي، إذا ما توافرت الظروف الإنتاجية المناسبة».
أما باسم أدهم لطفي، فنان التحريك في إحدى قنوات الكارتون، فيقول «عمل التحريك يحتاج إلى جيش من الرسامين والمتخصصين في التحريك، والجرافيك، لأن عمل ثانية واحدة قد يحتاج إلي أكثر من 15 رساماً، إضافة إلى أجهزة الكمبيوتر والبرامج المخصصة للرسوم المتحركة، والتي تباع بأسعار خيالية، فضلاً عن وحدات المونتاج، لكن هناك مشكلة لا تقل أهمية عن ذلك كله، وهي أن عدد الفنانين الذين يستطيعون العمل على هذه البرامج بحرفية عالية قليل جداً، لكن ذلك لا ينفي أن لدينا فنانين على مستوى عالٍ جداً من الاحتراف والتقنية في فنون التحريك والجرافيك، وأعتقد أننا في خلال السنوات القليلة المقبلة، سنقدم أعمال تحريك يمكن أن تنافس المستوى العالمي».
* إعداد: نادية سليمان