من دواعي سروري أن أشارككم حادثة حصلت بيني وبين حفيدتي، لارا، البالغة من العمر سنة واحدة فقط، وهي حادثة تتعلق بالطعام من حيث الشكل، لكنها تبلغ أبعاداً أعمق من هذا بكثير، من حيث الجوهر.
ذات يوم، من أيام الأسبوع الماضي، كنت مُمسكة بحبة خيار أهمُّ بقضمها حين رأتني لارا، وهي معتادة على طلب تذوُّق كل ما ترى الآخرين يأكلونه، ومعتادة كذلك على ألّا يرفض لها أهلها طلباً، بسبب صغر سنِّها. قطعت لها قطعة صغيرة من الخيارة التي في يدي ومددتُها لها، فدار بيني وبينها هذا الحوار الصامت الذي سأترجمه بين هلالين:
لارا: هزّت رأسها بالرفض ودلّتني بإصبعها الصغيرة على حبّة الخيار الكبرى (كلّا، أريد الخيارة الكبيرة)؛
أنا: هززت رأسي بالرفض، وأصررت على إعطائها الجزء الأصغر (لا، الخيارة خيارتي وأنا أعطيك منها الجزء الصغير فقط)؛
لارا: أصرّت بدورها على الجزء الأكبر، مشيرة إليه بإصبعها (كلا، أنا أريد الخيارة الكبيرة)؛
أنا: رفضت مجدداً، وأخفيت وراء ظهري القطعة الكبيرة عارضة عليها القطعة الصغيرة وحسب (انسَيِ الخيارة الكبيرة، إليك الصغيرة وحسب)؛
لارا: هزّت رأسها رافضة للمرّة الثالثة، ومهمهةً طلبها القطعة الكبيرة (كلّا، لن أنساها، أريد الكبيرة)؛
أنا: ما كان منّي إلا أن قرّبت القطعة الصغيرة من فمي (حسناً، لن تأخذي لا الكبيرة ولا الصغيرة، فأنا سآكلها)؛
لارا: مدّت يدها بسرعة لتأخذ القطعة الصغيرة (حسناً، حسناً، سآخذها، هي أفضل من لا شيء).
كثيرة هي العِبر التي يمكن استخلاصها من هذه الحادثة التي جمعت بين جدّة وحفيدتها البالغة من العمر سنة واحدة فقط.، أولاها أن حسّ التفاوض فطريٌّ لدى البشر. وثانيتها أن قدرتهم على وزن قوتهم ومصالحهم وتقديرها بميزان العقل تتغلب على طموحهم بتملّك كل ما تقع عليه أيديهم، أو عيونهم.
أما ثالثتها، فهي أن الأقوى قادر على فرض شروطه، أما الأضعف، إن قَبِل بهذه الشروط الآن، فهو يتصرّف بذكاء لئلّا يخسر كل شيء، بانتظار أن تتغيّر ظروفه، أو أن يتمكن من تغيير هذه الظروف بنفسه حتى يحصل على ما يريد، أو على ما هو من حقه. فتحصيل الحق خطوات تراكمية يُمهِّد نجاح الأولى منها إلى تحقيق ما تليها.