أشهر المقبّلات الشعبية وطبق كليوباترا المفضل.. "الطرشي" المصري سيّد الموائد في رمضان
تجذب محال المقبّلات المنتشرة في معظم أحياء مصر العتيقة، الأغلبية العظمى من المصريين طوال شهور العام، حيث يُعد «الطرشي» أحد أشهر المقبّلات التي يقبل عليها المصريون على اختلاف فئاتهم الاجتماعية، طوال شهور السنة كفاتح للشهية.
تزدهر تجارة الطرشي على نحو ملحوظ طوال أيام الشهر الفضيل، حيث لا تكاد تخلو مائدة منه، بأشكاله، وطُعومه المختلفة، ما بين الحرّيف، والمملّح بدرجاته المتعددة، الأمر الذي يجعله طبقاً رئيسياً على موائد الإفطار، يعكس في حقيقة الأمر واحدة من العادات المصرية المتجذرة.
إذ يُرجع كثير من الباحثين هذا النوع من المقبّلات إلى العصور الفرعونية القديمة، رغم أن كلمة طرشي في حقيقتها ترجع إلى أصول فارسية، فهي مستمدة من كلمة «ترشة» أي الإناء الذي توضع فيه الخضراوات لتخليلها، بالفارسية، لكن آخرين يرجعون الكلمة إلى أصلها العربي وهو «التخليل»، الذي يعني وضع الخضراوات في خليط من الماء والخل، بغرض تخليله، أي إكساب هذه الخضراوات نكهة الخل.
وتشير العديد من الدراسات إلى أن المخلّلات كانت موجودة على نحو كبير في العصور القديمة، لكنها شهدت رواجاً كبيراً كصناعة في العصر البطلمي، الذي ارتبط في مصر بالملكة الفرعونية الشهيرة كليوباترا، وتقول القصص المتداولة عنها إنها كانت تحب هذا النوع من المقبّلات، الأمر الذي دفع كثيراً من الباحثين إلى القول إن حرصها على تناوله كان أحد أسرار الجمال الذي تميزت به دون أقرانها من ملكات مصر القديمة.
ويطلق المصريون على صنّاع المقبلات الشعبية في البلاد اسم «الطرشجية»، نسبة إلى تلك الصناعة العتيقة التي لا يخلو منها حي من أحياء القاهرة، حيث يتم تجهيز الأصناف المختلفة من المخلّلات في أماكن مُعدّة سلفاً، يطلق عليها اسم «المعامل»، وفيها تخضع مختلف أنواع الخضراوات، وبعض الفواكه أيضاً، لعملية التخليل، باستخدام مقادير دقيقة من الملح، والخل، والزيت، إضافة إلى بعض التوابل، التي يعتبرها كثير من الصناع من أسرار المهنة، فهي التي تميز معملاً عن الآخر، في ما يتعلق بحلاوة الطعم، وتميّزه بنكهاته المختلفة.
تتراصّ جِوالات اللفت، والخيار، والجزر، والبصل، وغيرها من الخضراوات، في أروقة تلك المعامل، لتخضع لعملية تنظيف دقيقة، قبل أن تبدأ عملية التخليل باستخدام الملح، والخل، وأنواع معينة من البهارات. وقد كان من الطبيعي، قبل نحو ثلاثة عقود، أن تجد مئات من الأطفال يترددون على تلك المعامل في الدقائق القليلة التي تسبق موعد الإفطار في رمضان، وهم يحملون الأواني الصغيرة التي كانت تخصصها البيوت للطرشي، للحصول على كميات قليلة منه تكفي لأفراد الأسرة لتناولها مع وجبة الإفطار.
وكان يطلق على تلك الأواني الصغيرة اسم «السلطانية»، التي كان باعة الطرشي يحفظون مقاديرها عن ظهر قلب، فيقومون بوضع بعض ثمار اللفت المقطعة إلى شرائح طولية بدقة في قاع السلطانية، إلى جانب بعض قطع الخيار، والفلفل، والبنجر الأحمر، قبل أن يضيفوا على هذا الخليط ما يعرف بالدقة، وهو المرق الخاص بالمخلل الذي يتكون من خليط الماء، والخل، والعصير الناتج عن تخليل هذه الأنواع، مع قليل من الشطّة الحمراء.
ويعد معمل حبايب السيدة، الكائن في حي السيدة زينب العتيق، أحد أشهر المحال التي تخصصت في تلك الصناعة، منذ عقود بعيدة، حيث يرجع تاريخ تأسيس هذا المعمل إلى بدايات القرن الماضي.. ويقول عبد الرحيم أمين، احد العاملين في تلك الصناعة، إنها تعتمد في تميّزها على الخبرة التي يتم تناقلها بين الأجيال، الأمر الذي يميز معملاً عن آخر، مضيفاً «كثير من المعامل لا تحرص على جودة المنتج، بإضافة الألوان الصناعية إليه، ما يفقده كثيراً من جودة الطعم الأصلي للخضراوات، كما أن كثيراً من المحال لجأت إلى عمليات تجديد ضيّعت كثيراً من ألق تلك الصناعة، فتراهم اليوم يقومون بتخليل بعض الأنواع من الفواكه والثمار على سبيل التجديد، من دون الاهتمام بالخضراوات الأصلية التي تعتمد عليها صناعة الطرشي التقليدية، مثل اللفت، والخيار، والليمون، وغيرها من الأنواع الأخرى».
شهدت صناعة الطرشي في مصر رواجاً كبيراً خلال العصر الفاطمي، فانتشرت، في طول البلاد وعرضها، محال «الطرشجية» الذين تخصصوا في تلك الصناعة، وانشأوا لها المعامل، بعد أن ظلت، لقرون عدة، تصنع بأيدي النسوة في البيوت المصرية. وقد أدخل «الطرشجية» في ذلك العصر العديد من الأنواع إلى عملية التخليل، مثل القرنبيط، والزيتون، بلونيه الأسود والأخضر، بعد أن ظلت تلك العملية قاصرة على ثمار البصل، والفلفل، واللفت، والبنجر، والخيار، والجزر، لقرون بعيدة، وهو ما كان يعرف، ولا يزال حتى اليوم، بالطرشى البلدي، الذي يتميز عن غيره من الأنواع بالدّقة الشهية، حيث تمنح ثمار البنجر لطبق الطرشى البلدي اللون الأحمر الشهي، فيما تمنح ثمار الفلفل القرنقوطي لدقة الطرشي لوناً ذهبياً لا تخطئه العين، فضلاً عن الرائحة الجذابة.
تنتشر عربات بيع الطرشي في شوارع القاهرة طوال الشهر الفضيل، حيث يقبل كثير من الشباب على العمل عليها لجني بعض الأرباح طوال شهر الصيام، ويقول عماد صبحي، البالغ من العمر 18 عاماً، ويدرس بالفرقة الثانية في إحدى الكليات المرموقة بجامعة القاهرة «أعمل طوال شهر رمضان في تجارة الطرشي التي تدر أرباحاً جيدة، أستطيع من خلالها تغطية نفقات الدراسة، وتلبية بعض الاحتياجات الخاصة».
يحصل عماد على كمية مناسبة من الطرشي من المعمل القريب من بيته في حي الوايلي، ثم يعكف مع شقيقيه على تعبئة تلك الكمية في أكياس بلاستيكية، مع إضافة كمية من الدقة المتميزة، قبل أن يحمل الثلاثة تجارتهم إلى الشارع الرئيسي في الحي قبيل موعد الإفطار بنحو ساعتين، حيث يحرص كثير من المارة على شراء الطرشي الذي يحل ضيفاً رئيسياً على موائد الإفطار في رمضان.
مع بداية شهر رمضان من كل عام، يرتفع صوت كثير من الأطباء في مصر بضرورة تحرّي الدّقة عند شراء هذه النوعية من المقبّلات، والحرص على شرائها من أماكن موثوقة، حيث يؤدي لجوء بعض المعامل إلى إضافة الألوان الصناعية إلى الطرشي، واستخدام بعض المنكّهات الكيميائية، إلى مخاطر شديدة تؤثر في الصحة العامة، خصوصاً في الكبد، وقد يؤدي استخدام بعض المعامل أنواعاً رديئة من الملح في عمليات التخليل إلى الإصابة بأمراض ضغط الدم، وقرحة المعدة، بل إن الأمر قد يتطور إلى مخاطر أكبر، بالإصابة على المدى البعيد بأورام الجهاز الهضمي، والكبد، وسرطان المعدة.
ويقول الدكتور حلمي ندا «هذه المخاطر تنتج عادة بسبب لجوء كثير من المعامل المتخصصة في صناعة الطرشي إلى تخزينه في براميل بلاستيكية، بعضها يكون قد تم استخدامه في تخزين بعض المواد الكيميائية، مثل البويات وغيرها، حيث تحتفظ تلك الأواني الضخمة بجزيئات المواد الكيماوية التي كانت مستخدمة من قبل، فتتفاعل مع الطرشي،، بينما يجب أن تتم عملية التخليل في براميل خشبية، ووفق اشتراطات صحية صارمة».
* تصوير: أحمد شاكر