ولو أردنا الواقع لقلنا (عطر الدولار). فقد تسلّلت العملة الخضراء إلى أهم دول الشرق والغرب، وسَادت، وطغَت، واستشرَست، وأنزلت العملات المحلية من عليائها، ونسَفت قيمتها، ومسحت بها التراب.
لا أتكلم عن بلدان الريال، والدرهم، والدينار الخليجي. بل عمّا عشناه في موطني العراق، وما أتابعه من مأساة ضربت الليرتين، السورية واللبنانية، وما تتحدث عنه وسائل الإعلام المصرية بشأن سعر صرف الجنيه.
شقيقتي الكبرى كانت مديرة مدرسة ثانوية في بغداد. خريجة أدب عربي، ولها ممارسة في التدريس تزيد على ثلاثين عاماً. أنيقة، مترفة، تعتني بمظهرها، وأحذيتها، وحقائبها، وعطورها، مثل العراقيات بنات الطبقة المتوسطة. تسافر مع أسرتها لقضاء الصيف في بيروت أحياناً، وحيناً في لندن، يوم كان الدينار العراقي يساوي أكثر من ثلاثة دولارات.
ثم بدأت النزاعات السياسية، وضرب البلدَ حصارٌ اقتصاديّ قاسٍ. تدهور الدينار الأزرق، وما عاد يساوي ثمَن الورق المطبوع عليه. تراجع مرتّب الموظفين، والمديرين، ومعلّمي المدارس، حتى هبط إلى ما يعادل دولارين. باع أساتذة الجامعات مكتباتهم، وكان هناك من باع أثاثه، ومن اشتغل بسيارته الخاصة سائقاً بالأجرة، بعد الدوام. تلك حكايات تعرفونها جميعاً، وصارت مملّة من كثرة تكرارها.
كانت العيدية في طفولتي عشرة فلوس. ولما كبرت قليلاً، صارت درهماً، أي خمسين فلساً. وبذلك الدرهم في جيبي كنت أنزل إلى الشارع كأنني سلطانة زماني. ولما اشتغلت مندوبة أخبار في جريدة يومية، كان أول مرتب لي خمسة عشر ديناراً. اليوم مرتبات الصحفيين الكبار بالملايين، لكنها لا تعادل ما كان في مرتبي من بركة.
في آخر زيارة لي لأهلي، وجدت العراقيين يحملون أكداس الدنانير في أكياس الخضار، ما في الكيس لا يكفي لشراء حذاء، وهو ما رأيته في لبنان بعد ذلك، البلد الذي كنا نعتبره فردوساً من الحرية، والحداثة، والطبيعة الخلابة، والذوق الراقي.
أسمع عن الجنيه، ولا أدري كيف يتدبّر أصدقائي المصريون أمورهم. أتابع برنامج عمرو أديب ويدي على قلبي. يتحدث عن الديون، وعن القروض، وعن آمال، قد تأتي ولا تأتي، وعن حسرة ربّة البيت المصرية حين تنزل لشراء البيض، والسكّر، وأساسيّات العيش. تقف في «السوبرماركت» وتفتح عينيها عجباً حين تطالع الأسعار.
هذه مصر التي شغفتُ بالصحافة بفضل قراءتي للصحف التي كانت تصلنا منها. هذه القاهرة التي نرتاد مكتباتها، ومسارحها، ونطبع فيها كتبنا، والتي هذّبت أسماعنا على أعذب الأغنيات، وأمتعت أنظارنا بأروع الأفلام والمسلسلات. أي عالم هذا الذي يأخذنا إلى مجهول مخيف؟
كل الأنوف تتشمّم رائحة الدولار. تبحث عن نسمة منها. ولست محلّلة سياسية، ولا أجيد التنظير. كلنا يعرف كيف تصعد الحماسات، وتزوغ الأبصار، وتعلو الهتافات، ويهتز الميزان، وتسقط الفاس في الرأس. متى تنزاح هذه الفأس عن الرؤوس، ويتوقف الدولار عن استعباد بعض البلدان؟