28 أبريل 2024

فيلم "ثالث".. طرح مختلف عن الوضع اللبناني الصعب

ناقد ومؤرخ سينمائي، وُلد وترعرع في بيروت، لبنان ثم هاجر إلى الغرب حيث ما زال يعيش إلى الآن معتبراً السينما فضاء واسعاً للشغف

فيلم

مصير بعض الأفلام العربية أن تبقى مجهولة لدى العديد من المشاهدين على عكس أفلام أخرى تُتاح لها فرص كبيرة للنجاح في عروضها العالمية.. الفيلم التالي جوهرة لم يُعِرها النقد الاهتمام الكافي.

فيلم

العنوان الذي اختاره المخرج كريم قاسم بالإنجليزية هو Thiiird مع ثلاثة أحرف I. كل حرف يمثّل باباً من ثلاثة أبواب يريد بطله فؤاد (فؤاد ماهولي)، تركها في ثلاثة أماكن متفرقة. ما هو الرمز المقصود تحديداً؟ هو متروك لاستنتاج كل مشاهد لهذا الفيلم البديع، لمخرج يهيم حبّاً باللقطة غير المستعجلة، والإيقاع الطبيعي للحياة التي يعرضها.

وصف البعض الفيلم بالتسجيلي، وهذا خطأ كبير، وإلا لكان من الممكن وصف أفلام ثيو إنجيلوبولوس، وأندريه تاركوڤسكي، بالتسجيلية لكونها أيضاً تتبع إيقاعاً تأملياً طبيعياً ينحاز للصورة على حساب الحركة. «ثالث» هو فيلم درامي كامل، ذو منهج يقوم بمراقبة الشخصيات إثر توجيهها لما هو مطلوب منها. هذا وحده يجعله عملاً روائياً ولو مع تقليل النسبة الدرامية للحد الأدنى.

فيلم

يدور حول مصلح سيارات اسمه فؤاد، يعيش ويعمل خارج قرية لبنانية. نتعرّف إليه وهو يعالج سيارة متوقفة. وحين لا يفلح في معرفة العطب يقوم وعامله السوري، محمد (محمد العليان)، بدفعها إلى الخلف تارة، وإلى الأمام تارة أخرى. لا شيء يفيد. لا شيء يعمل وهذا هو الإحساس السائد في مطرح العمل، ثم على رقعة الحياة أيضاً.

وحتى لا يبقى الفيلم (الذي لا يتودّد صوب سرد قصصي معتاد) كناية عن رجلين يعيشان في كنف حياة مهملة، يوفر المخرج شخصيات أخرى لن تتدخل في الحكاية الدائرة، بل هي أشبه بهامش ملاحظات على جانبها: المرأة التي تبكي وهي تتحدّث على الهاتف وقد خسرت زوجها، وأموالها المحجوزة في أحد المصارف، وعليها أن تعيل أولادها.

الشبّان الأربعة الذين يتداولون الوضع المعيشي المتدهور، وشابان في سيارة، أحدهما كاتب ومخرج، والثاني ممثل يريد تغيير كلمة «عائدون» في حوار مسرحية مزمعة، إلى كلمة «راجعون»، لأنه يجدها أكثر شعبية. الكاتب يعارض، والممثل يصر.

فيلم

هؤلاء ينتشرون في أرجاء ذلك المحل. سيارة تأتي وسيارة تذهب، لكن الوضع سيئ بالنسبة إلى فؤاد الذي عليه أن يغلق المحل. مساعده محمد يحفر قبراً، ربما لنفسه، أو ربما لمستقبله. فؤاد بدوره، وقد قرر إغلاق هذا المحل الكائن على كتف طريق في القرية (لا نراها سوى مرّة واحدة)، يريد أن يستعير شاحنة صغيرة ليحمل الأبواب الثلاثة فوقها. أبواب ترمز لآمال مفتوحة على الهواء. حين يضع فؤاد أحد هذه الأبواب مسندة إلى صخرة قرب قارعة الطريق يعود قبل ركوب سيارته، ليفتح بابها.

فيلم

الفيلم ساحر بتصوير طلال خوري بالأبيض والأسود، (باستثناء 5 دقائق ختامية). الكادرات تنتمي دائماً إلى شروط التعبير عن الوضع. التفاصيل الصغيرة لا تعد صغيرة، لأنها تتحوّل أمام العين إلى أجزاء من الحياة. وهناك الكثير من الماء. نهر تاركوفسكي نراه أحياناً، ونسمع خريره أحياناً أخرى.

هناك دجاج يخرج من القن عندما يفتح فؤاد الباب. تلحقه لإطعامها. في مشهد يوزع نتفاً من رغيف بين يديه، لكن إحدى الدجاجات تنقد الرغيف ثم تطبق بمنقارها عليه، وتسحبه من بين أصابعه. هذا لا يتطلب، كما يفعل مخرجون آخرون، لقطات إضافية بل كل ما في الأمر أن على المشهد أن يتكون من لقطة واحدة تستوعب كل شيء. عينا المشاهد هما ما عليهما العمل لفهم الأسلوب وهضم الدلالات الموحى بها وفي كل لقطة دلالة.

لا يوجد تمثيل بالمعنى المتعارف عليه. ربما هذا سبب التباس بعض النقاد (وإحدى المؤسسات العربية) حين وصفوا الفيلم بالتسجيلي. الأداء طبيعي، ولابد أن ما قام المخرج (لبناني يعيش في الولايات المتحدة) به هو تدريب الممثلين غير المحترفين على الحياة أمام الكاميرا، من دون التفكير فيها. يلتقط صدق تلك الآمال المنهارة والأحلام البائدة.