لن أقول جديداً إذ أقول إن الحفظ عن ظهر قلب مُنَفِّر للعديد من التلامذة، كما أن عدداً لا بأس به من منظِّري التربية والتعليم يعتبرونه حشواً للرؤوس، لا فائدة منه. وقد جاءت شبكة الإنترنت لتوطّد هذا الرأي وتُعمِّمه، فكيف يمكن أن نطلب من التلميذ أن يحفظ تعريفاً بشكل حرفي إذا كان قادراً على الحصول عليه في بضع ثوانٍ من الإنترنت؟
فحتى يقبل الدماغ القيام بجهد معيّن يجب أن يرى أهميّته، وسيكون قراره معتمداً دائماً على مقارنة بين الفائدة التي سيجنيها، وبين الجهد الذي سيبذله. فهل ثمة فائدة بعد من تعلُّم أي شيء عن ظهر قلب؟ نعم، يقول العلماء، أربعة أسباب يجب أن تدفعنا للمحافظة على الحفظ غيباً.
السبب الأول، هو السرعة التي تصلنا فيها المعلومة. فالبحث على الشبكة يستلزم وقتاً على الدوام، ومهما كان هذا الوقت قصيراً، فإنه قد يصير مزعجاً للغاية في حال تكراره، بوتيرة عالية. فمن الممتع أن يحمل المرء في دماغه قاعدة بيانات توفر عليه قطع عمله باستمرار.
السبب الثاني، هو أن الحفظ غيباً يعطي مخزوناً يمكن إعادة تركيبه بطريقة خلّاقة، والإتيان بأشكال جديدة في جميع المجالات يكون مستحيلاً، ما لم نكن قد اختزنّا في الذاكرة لَبِنات أساسية هي نواة لإبداعات مبتكرة.
السبب الثالث، هو أن الحفظ غيباً ضروري في كل المجالات التي يُمنع فيها أيّ شكل من أشكال التردّد عند القيام بالعمل. تخيّلوا مثلاً طبيباً يفحص مريضاً ولا يمكنه أن يعطي تشخيصاً لحالته لأنه لا يحفظ أعراض الأمراض، حتى لو كان عليه أن يجري فحوصات إضافية ليحسم تماماً هذا التشخيص.
والسبب الرابع، هو أن استبطان المعلومات والمعارف يسهّل إلى حد كبير التفكير، واكتساب معارف جديدة، وممارسة التوليف بين المعارف للتوصل إلى استنتاجات وطرائق معالجة جديدة.
وسواء أكنّا نحب القيام بهذا الجهد، أم لا، جهد الحفظ غيباً، فإن الكسب الذي يقدمه على المدى الطويل سيبرر على الدوام ضرورة الإبقاء عليه في مدارسنا. وإن كان الحفظ لا بد منه، فإننا سنكسب الكثير بتسهيله إلى أقصى الحدود، مستفيدين من بعض المعلومات المتوافرة حول طريقة عمل الذاكرة.
ومع هذا، قد تتضاءل مكانة الحفظ غيباً في التعليم، مع ثورة المعلومات الحالية التي تسمح بتخزين ونشر المعرفة بطريقة مغايرة. وقد عاشت البشرية ثورة مماثلة مع اختراع الكتابة، والطباعة، حيث خفّ الاعتماد على الذاكرة البحتة في نقل المعارف شفاهة، كما كان يحصل سابقاً، وصار الاعتماد على الكتب لنقلها. بيد أن أولئك الذين سيستمرون في خزن المعلومات في دماغهم سيتميزون عن سواهم ممن يكتفون باستشارة محركات البحث عن المعلومة عند الحاجة.