يعرض التلفزيون فيلماً للمخرج اللبناني فيليب عرقتنجي.. فيلم طويل لا هو بالروائي، ولا هو بالوثائقي. والصوت المتحدث فيه هو صوت المخرج نفسه. لقد عاد إلى وثائق العائلة، وصور الأجداد، والآباء، والأبناء، وروى من خلالها حكاية تشبه حكايات الملايين من العائلات اللبنانية، والسورية، والعراقية، والفلسطينية. رجال ونساء حرفت أحداث المنطقة مسار حياتهم، وفرضت عليهم أنواعاً من الهجرات.
يبدأ المخرج بسيرة جدّته الكبرى. وصل الجيش الفرنسي إلى مدينتها فتصوّرت أنه جاء ليحمي المسيحيين من الأتراك العثمانيين. خرجت مع غيرها للترحيب بالقوات الغازية، وأنشدت «المارسييز»، النشيد الوطني الفرنسي. وكانت النتيجة أن الأسرة تعرّضت للعقاب، واضطرت للهجرة إلى سوريا.
ازدهرت تجارة ابنها الكبير، لكن الوضع المضطرب في البلد جعله يأخذ زوجته وأبناءه وينتقل إلى بيروت. قامت الحرب الأهلية فبنى بيتاً في الجبل، وانتقلوا جميعاً إليه. لكن الأمان المنشود لم يتوفر.
المخرج، حفيد تلك الجدّة، هاجر إلى فرنسا، وتزوّج هناك. صار له ولد وبنت يحاول أن يعلّمهما اللغة العربية. وكلما اشتعل نزاع في لبنان، أو حدث تفجير كبير، يأخذ كاميرته ويعود لتسجيل وقائع الخراب. نراه في البيت، يتغدّى على مائدة والدته.
الأم، رغم سنّها، سيدة أنيقة، تهتم بزينتها، وتسريحة شعرها، والأطباق على مائدتها شهيّة. لوبيا بالزيت، وفتوش، وحمص، وكبّة بالصينية. تخاف على ابنها الذي صار رجلاً، وتقول له: «لماذا عدت إلى هنا؟».
المخرج فيليب عرقتنجي
ليست هي المرة الأولى التي أرى فيها مخرجين يهتمّون بتصوير أمّهاتهم، أو عمّاتهم، أو جدّاتهم. أول فيلم شاهدته وأحببته من هذا النوع كان للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي. تجلس عمّته العجوز على كرسي وسط أرضها الواسعة، في قرية من القرى المحتلة. كلّ من حولها ترك، وباع، وسافر، وهي الوحيدة التي ترفض أن تبيع. تبقى شوكة في الخاصرة.
لماذا يصوّر المخرجون حكايات أمّهاتهم؟ هل الوالدة أكثر موهبة من الممثلات المحترفات؟ نعم، إن الأم البسيطة تبقى أكثر صدقاً وجاذبية من نجمة السينما. هي صاحبة الحكاية، ترويها كما عاشتها، بكل التأثر، والبسمات، والانفعالات، والدموع. لا تحتاج الأمّهات إلى كتّاب السيناريو والحوار. هنّ الكاتبات، ومؤلفات القصة.
ثم إنها لا تحكي لأيّ كان، ولا أمام أيّ كاميرا. إنها كاميرا الابن الذي أنجبته، وتثق به. وهي تؤمن بالعمل الذي يقوم به، وتريد له أن ينجح. تمنحه كل ما يحتاج من عواطفها أثناء التصوير. تأتي شهادتها حارّة، صادقة، شهية مثل الرغيف الساخن.
كم أشعر بالخسارة لأنني لم أصوّر والدتي سينمائياً قبل رحيلها؟ كانت كنزاً من الحكايات، وتاريخاً حيّاً لفترة شديدة الأهمية من تاريخ المجتمع العراقي.