14 أبريل 2022

د. حسن مدن يكتب: رمضان وذاكرة الطفولة

كاتب بحريني، يكتب زاوية يومية في جريدة "الخليج" الإماراتية بعنوان "شيْ ما"

كاتب بحريني، يكتب زاوية يومية في جريدة "الخليج" الإماراتية بعنوان "شيْ ما"، صدرت له مجموعة من الكتب بينها: "ترميم الذاكرة"، "الكتابة بحبر أسود"، "للأشياء أوانها"، "يوميات التلصص".

د. حسن مدن يكتب: رمضان وذاكرة الطفولة

البلدة التي نشأت فيها في الطفولة، بكل بيوتها، أقل من حي في أية بلدة أخرى كبيرة. مع ذلك كانت مقسّمة إلى أحياء بينها مثلاً الحي الشرقي وحي الوسط. نحن كنا نسكن في الحي الغربي، وكثيراً ما كانت تقوم مشاحنات بين فتيان هذه الأحياء.

وإذا صادف وجودك في حي آخر غير ذاك الذي يقع فيه بيتك يمكن أن يسألك أحد أبناء هذا الحي: ماذا تعمل في حيّنا؟

في شهر رمضان بالذات كنا نتجاوز تلك التقسيمات بين الأحياء، حين نتجمّع أمام الساحة المحاذية لمسجد البلدة في ما كنا نطلق عليه الحي الشرقي. تلك الساحة التي كانت تبدو لي واسعة، شأنها شأن كل الفضاءات المتبقية في ذاكرة الطفولة، تذكّرني بشكل خاص بالليالي المقمرة في رمضان؛ حيث لا أنسى منظر القمر الفضي وهو ينير الساحة عندما يكون في كماله.

كان رمضان يتيح لنا في تلك السن المبكّرة هامشاً أوسع من الحرية بأن نجد أنفسنا أحراراً خارج البيت في الليل، وهو أمر لم يكن متيسراً في الليالي غير الرمضانية؛ حيث كان علينا أن نكون في البيوت ما أن يحل المغرب. كان نور القمر يغطّي الساحة، ويشق شعاعه المسافات بين نخلة وأخرى في غابة النخيل القريبة من باحة المسجد، فتبدو أليفة وصديقة في تلك الليالي، كأنها تشاطرنا فرحنا وغبطتنا.

وفي سنين لاحقة حين كنت أطلق العنان لمخيّلتي في التأمّل فطنت إلى الذي يفعله ضوء القمر على غابة النّخيل: إن تدرّجات الفضة الآتية من القمر البعيد على خضرة سعف النخيل الذي يبدو داكناً في عتمة الليل تخلق ما يشبه اللوحة الملوّنة، وتجعل من النخلة قريبة من الروح، قريبة من الفؤاد.

في منتصف الأربعينات من عمري، وبعد طول غياب عن البلدة، حرصت على أن أذهب إلى تلك الساحة أمام المسجد. لم يكن الوقت ليلاً. لم يكن ثمّة قمر فضي يبدد العتمة، كان الوقت عصراً والشمس ما زالت قوية. بدت الساحة ضيقة وصغيرة جداً. أيجوز أنها هي الساحة نفسها التي كنا نظنها – صغاراً - بوسع الدنيا وكانت لشدة اتساعها تصبح ملعباً لكرة القدم.

ذُهلت. المساحة نفسها والبيوت المحيطة بها نفسها، سوى أن غابة النخيل لم تعد في نضارتها التي عهدتها فيها، وهي توشك على الموات بعد طول عطش. لكن كيف ضاقت الساحة أمام ناظري هي التي كانت لفرط اتساعها فضاء جري لمهرٍ كنّاه نحن أنفسنا في تلك السن الجميلة من العمر.

ما أكبر المسافة بين مخيّلة الطفولة وصرامة الواقع!

 

مقالات ذات صلة