نعيش في أجواء العشر الأواخر من شهر رمضان الفضيل، تلك الأيام المباركة التي اختصها الخالق سبحانه بليلة القدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من العبادة والطاعة والدعاء فيها، وأخبرتنا السيدة عائشة رضي الله عنها بما كان يفعله صلوات الله وسلامه عليه فقالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله».
فكيف نقضي هذه الأيام الطيبة في ظل ما نعانيه من وباء يحصد الأرواح في كل مكان؟
وما فضل إحياء الليل خلال هذه الأيام المباركة وكيف يكون هذا الإحياء؟
وما هي العبادات والطاعات والأعمال الخيرية التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم خلال العشر الأواخر من رمضان؟
وكيف نتحرى ليلة القدر؟
تساؤلات كثيرة نتعرف من خلال الإجابة عنها إلى وصايا وتوجيهات عدد من كبار علماء الأزهر الشريف:
نحن جميعاً مطالبون بحسن الظن بالله، والثقة بأنه سبحانه سيرفع البلاء، وستعود حياتنا بإرادته وعونه سبحانه إلى طبيعتها
في البداية يوصي الإمام الأكبر د.أحمد الطيب شيخ الأزهر جميع المسلمين بأداء عباداتهم في العشر الأواخر من رمضان دون أن يحملوا أنفسهم فوق طاقتهم، ويؤكد على ضرورة أن يستمر المسلمون في هذه الأيام المباركة في حيطة وحذر من الوباء الخطير، وأن يحصنوا أنفسهم بكل ما يستطيعون من إجراءات احترازية، ووسائل حماية، فحماية النفس والغير- بقدر الاستطاعة- من الواجبات الدينية التي ينبغي الحرص عليها، ويقول «واجبنا جميعاً أن نلتزم بكافة الاحتياطات لحماية أنفسنا، ومن هم تحت ولايتنا، فإن نجانا الله من الوباء وحفظنا منه كنا من الحامدين الشاكرين، وإن أراد الله وأصاب أحد منا الوباء، ينبغي أن يكون من الصابرين المحتسبين، ويتخذ كافة وسائل العلاج، وحماية الآخرين من الإصابة».
ويضيف «نحن جميعاً مطالبون بحسن الظن بالله، والثقة بأنه سبحانه سيرفع البلاء، وستعود حياتنا بإرادته وعونه سبحانه إلى طبيعتها، فهو سبحانه القائل عن نفسه في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي»، ولذلك علينا أن نبتهل إلى الله مخلصين طائعين في هذه الأيام المباركة أن يرفع عنا وعن البشرية كلها هذا الوباء، فنحن في أيام طيبة والمسلم أقرب ما يكون من ربه فيها بفعل ما يتقرب به إليه من عبادات وطاعات. يجب أن تكون دعواتنا صادقة مخلصة.»
ويشدد شيخ الأزهر على ضرورة أن تكون الأيام الأخيرة من رمضان فرصة للصفاء النفسي من خلال استغلال الوقت في العبادة، وتلاوة القرآن، وقيام الليل مع الأهل كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما يوصي شيخ الأزهر المسلمين بالسخاء مع الفقراء والمساكين ليس من خلال الحرص على صدقة الفطر وحدها، ولكن من خلال الصدقات التطوعية، ويبين «الفقراء أمانة في أعناقكم فكونوا لهم عوناً وسنداً ولا تبخلوا عليهم من فضل الله الذي آتاكم، فأكرموهم وابذلوا لهم العطاء، واعلموا أن هناك طائفة منهم لا يسألون الناس، ولا يطلبون شيئاً، تحسبونهم أغنياء من التعفف، فابحثوا عن هؤلاء، وصونوا عزة نفوسهم، واجبروا خواطرهم، وعجلوا بزكاتكم، عسى الله أن يعجل بأمر من عنده يكون لنا فرجاً ومخرجاً من هذه الأزمة الإنسانية».
يمكن لمن أرد أن ينال الأجر والثواب هنا أن يعد لنفسه ركناً أو غرفة في بيته يختلي فيها بنفسه ليقرأ القرآن ويتعبد بعيداً عن مصادر اللهو
العالم الأزهري د. حسن الصغير، الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر، يؤكد ضرورة أن يودع المسلم هذا الشهر الكريم خير وداع، ويوضح «إذا كنا قد عشنا أيام وليالي رمضان السابقة بالعبادة والطاعة وعمل الخير، فالعشر الأواخر من رمضان لها مكانة خاصة، وينبغي أن تحظى باهتمام أكبر، وأن يتعاظم فيها العطاء الروحي لكل مسلم، ففيها ليلة القدر التي جعلها الله خيراً من ألف شهر، وفيها سنة الاعتكاف لمن تيسر له، حيث يختلي المسلم بنفسه، يعبد الله حق العبادة، ويعيش حالة صفاء روحي لا تتوافر للإنسان في أي خلوة أخرى، وفيها صدقة الفطر حيث يتضاعف التكافل الاجتماعي والإنساني في ختام رمضان.. ثم يعيش المسلم مع أسرته فرحة عيد الفطر المبارك وما فيه من صلة للرحم، ومن بهجة بتمام فريضة الصوم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«للصائم فرحتان: فرحة يوم فطره، وفرحة يوم لقاء ربه».
ويوصي د. الصغير الجميع بإحياء هذه الأيام الطيبة كما كان يحييها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ويقول «أفضل من يقتدي به المسلم في هذه الأيام المباركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة والمثل في العبادة الصادقة التي ينال عليها الإنسان أعظم الأجر والثواب. ورغم عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل أيام وليالي رمضان، وكان يستعد له قبل قومه بأيام، ويبشر المسلمين به، فقال: «أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار».. إلا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يحتفي بالعشر الأواخر من رمضان أكثر من غيرها، وقد نقلت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها استعداد رسول الله صلى الله عليه وسلم للاحتفاء بالعشر الأواخر من رمضان، فقالت في رواية صحيحة: «إذا دخل العشر- أي الأيام العشر الأخيرة من رمضان- أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر»، ومعنى «شد المئزر» أي اجتهد في العبادة، وحرص على إيقاظ الأهل للصلاة والعبادة، وهو ما يشعر بالحرص على اغتنام الثواب الجزيل في هذه الليالي التي ورد أن ليلة القدر إحداها، والعبادة في ليلة القدر خير من العبادة ألف شهر سواها».
ويوضح الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر أن عبادة الاعتكاف لا تكون إلا في المساجد لقول الحق سبحانه «وأنتم عاكفون في المساجد»، فالاعتكاف مرتبط بالمسجد، وفي ظل انتشار وباء «كورونا» الخطير وحرصاً على الأنفس من أن يطالها الوباء القاتل حظرت العديد من الدول الإسلامية الاعتكاف في المساجد، ويمكن لمن أرد أن ينال الأجر والثواب هنا أن يعد لنفسه ركناً أو غرفة في بيته يختلي فيها بنفسه ليقرأ القرآن ويتعبد بعيداً عن مصادر اللهو وشغل الوقت بما لا يفيد في رمضان، وله الأجر والثواب إن شاء الله.
ليلة القدر هي ليلة مباركة ذات مكانة جليلة، ينبغي على المسلم أن يقيمها بسائر أنواع العبادات، لأن العبادة والطاعة والدعاء في ليلة القدر لها فضل وافر
ونأتي إلى «ليلة القدر» التي شرف الله بها شهر رمضان، ووفقاً للروايات الصحيحة فهي في العشر الأواخر، وهي ليلة عظيمة مباركة جعلها الله أفضل وأعظم من ألف شهر.. أي أن الطاعة والعبادة فيها خير من العبادة والطاعة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.. والألف شهر تساوي ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.
يقول د. عبدالله النجار، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف «لم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يحدد ميقات ليلة القدر تحديداً دقيقاً واضحاً حتى لا يتكل الناس، وإنما أخفى الله تعالى وقتها ليقوم المسلمون بإحياء أكبر وقت ممكن من أيام رمضان ولياليه، وذلك جار في كثير من الأمور، فقد أخفى الله تعالى ساعة الموت ووقت انتهاء الأجل، لتستمر الخشية من الله، ويستمر المسلم في طاعة ربه».
وهناك نصوص متعددة تؤكد أنها في العشر الأواخر من رمضان، وهناك روايات ترجح أنها ليلة السابع والعشرين، لكن الثابت شرعاً أنها إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان، وعلى المسلم أن يلتمسها في هذه الليالي، وأهم ما يحرص عليه المسلم هو المزيد من الطاعة والعبادة في العشر الأواخر من رمضان.
ويضيف «ليلة القدر هي ليلة مباركة ذات مكانة جليلة، ينبغي على المسلم أن يقيمها بسائر أنواع العبادات، لأن العبادة والطاعة والدعاء في ليلة القدر لها فضل وافر، فالله ما دام قد جعلها خيراً من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، فهذا يفيد أن العبادة فيها تكون أعظم شأناً منها في غيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه».
وأفضل ما يردده المسلم من أدعية في تلك الليلة المباركة قوله:
«اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني» فقد روي أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».. وهذا يؤكد أن أفضل الدعاء أن يسأل العبد ربه العفو والعافية».
اقرأ أيضًا: د. أحمد عمر هاشم: 7 وصايا نبوية للفوز بالصوم المقبول