24 أكتوبر 2023

موظفات يتظاهرن بالسذاجة ويلتزمن سياسة "التطنيش" لضمان البقاء في الوظيفة

كاتبة صحافية

كاتبة صحافية

موظفات يتظاهرن بالسذاجة ويلتزمن سياسة "التطنيش" لضمان البقاء في الوظيفة

نسرين عضت على شفتيها لكي لا تصرخ من الغضب.. مدير متحف لا يفرق بين الهيروغليفية والسنسكريتية.. مريم تعاملت مع الخطأ وكأنه نكتة تستدعي الضحك.. نهى تضطر لامتداح أفكار مديرها التي سرقها منها.

في عصر مضى، كان مطلوباً من المرأة أن تكون جميلة فحسب. إن ذكاءها قد يزعج شريك حياتها، وثقافتها تجعل منها ثقيلة الظل. ويبدو أن هذه النظرة ما زالت تعشعش في الدوائر والشركات وأماكن عمل النساء. فالزميل يريد أن يكون متفوقاً على زميلته مهما بلغت من مؤهلات. لذلك نجد نساء ذكيات يتظاهرن بالسذاجة لمجرد إرضاء المدير ومداراة نرجسية زملاء العمل. «كل الأسرة» تحاورت مع عدد منهن.

موظفات يتظاهرن بالسذاجة ويلتزمن سياسة "التطنيش" لضمان البقاء في الوظيفة

لعبة «الجميلة البلهاء»

في أفضل الأحوال فإنها تلتزم الصمت.. وفي أسوأ الأحوال تتظاهر بالغباء، لكي لا تحرج مديرها أو تكشف له خطأه. لقد تعودت ذلك منذ أن نشأت على عدم مخالفة والدها فيما يقول. لقد وفر لها سبل التعليم العالي وصارت تفهم أكثر من هذا المدير في كثير من الأمور الحديثة. يمكنه أن يطلب مساعدتها عندما تستعصي عليه قضية في الحاسوب، أو حجز عبر الهاتف النقال، لكن ليس من اللائق أن تشكك في معلوماته أو أن تقول له إن معلوماته قديمة تجاوزها الزمن.

المدير ليس الأب. لكن احترامه واجب وطاعته تضمن الاستمرار في الوظيفة وعدم انقطاع الرزق. وهي قد جربت الأمر نفسه مع الزوج، إذ من المعيب مخالفته في معلوماته أو كشف أخطائه لأن ذلك يعني التقليل من هيبته. لا بأس من ممارسة لعبة «الجميلة البلهاء» في سبيل ألا ينزعج الرجل المقابل لها. إنها لعبة تضمن لها السلام. هذا ما ينصحها به ذكاؤها. والمثل الفرنسي الشهير الذي تتوارثه البنات عن الأمهات يقول: «كوني جميلة واسكتي».

موظفات يتظاهرن بالسذاجة ويلتزمن سياسة "التطنيش" لضمان البقاء في الوظيفة

نسرين.. سياسة «التطنيش» صمام أمان

تروي لنا نسرين، وهي موظفة جامعية ثلاثينية تعمل في فضائية عربية، أنها تلتزم سياسة «التطنيش» لأنها صمام أمان واستمرار في الوظيفة ذات المرتب الجيد. وهي تقول إن مسؤولها في العمل يرتكب أخطاء تكلف الكثير من المال لكنه يجد دائماً المبررات لأن يكون رأيه هو الصائب ورأي غيره خطأ. وبما أنه المدير وهو من يتحمل المسؤولية فإن ضميرها لا يؤنبها في حال مررت له حماقاته ولم تصر على رأيها. وهذا المدير نفسه قد يسمح لزميل من الزملاء بأن يناقشه لكنه لا يمكن أن يتقبل النقاش مع زميلة. لقد تربى على أن المرأة أقل فهماً واستيعاباً من الرجل حتى ولو كانت أعلى منه تأهيلاً وشهادات.

أسألها: «ماذا يحدث لو أنك أثبت له أنه مخطئ»؟ تجيب بأنه قد يغفر لها إصرارها على رأيها لكنه سيستخدم كل الطرق، فيما بعد، لتسخيفها والتقليل من شأنها وربما إهانتها. ومن ذلك سحب المهمات الجيدة منها وعزلها وسد منافذ الترقية في وجهها. باختصار، إن ثمن مخالفة المدير غال وهي ليست مستعدة لدفعه. السكوت خير من الكلام طالما أن الإدارة العليا راضية بما يجري.

اختارت نسرين أسلحتها الدفاعية. المدير يملك النفوذ وهي تحتاج للمرتب. لكن السكوت ليس سهلا، وهي تقول إنها تضطر أحياناً إلى العض على شفتيها لكي تمنع الكلام من التدفق. ففي آخر تصادم لها مع مديرها، قبل أشهر، وجدت نفسها تصرخ في داخل فمها ولا تخرج صرخة الاحتجاج إلى العلن. من يومها تعلمت أن تبتلع لسانها وتبتسم، أو تتظاهر بالابتسام.

كانت مكلفة بتحضير وثائق تساعد في أعداد مقابلة مع شخصية علمية، وهي اشتغلت طوال ساعات بحثاً في الشبكة الإلكترونية وراجعت موضوعات تتعلق بمادة اللقاء، لكن المدير شطب على كل شيء وقال لها إن المشاهدين لا يهتمون بالتفاصيل ويريدون مادة خفيفة. حاولت أن تقول له إن الضيف عالم في ميدانه وهو لن يرد على أسئلة من نوع «ما هي أغنيتك المفضلة؟» أو «أي طبق تحب؟»، لابد من شيء من المعلومات المفيدة للمتفرج، فالبرنامج علمي وليس من برامج المنوعات. وهنا رمقها المدير بنظرة أخرستها وقال لها ما معناه إن القناة ستغلق بعد يومين لو استمع إلى رأيها. حسناً يا سيدي.. لماذا أتدخل فيما لا يعنيني ما دمت أنك العليم الفهيم؟ لتكن الأسئلة المطروحة على الدكتور في علم الفضاء هي نفسها التي تطرح على مطرب مهرجانات.

موظفات يتظاهرن بالسذاجة ويلتزمن سياسة "التطنيش" لضمان البقاء في الوظيفة

سهير.. أنقذت المدير فعاقبها بالطباعة

موظفة أخرى تدعى سهير، تشتغل في متحف بمدينة تاريخية. كان هناك حفل افتتاح لندوة حول الآثار الفرعونية ووقعت الكلمة التي سيقرؤها المدير بين يديها. وجدت أنه يستخدم وصف اللغة السنسكريتية باعتبارها لغة قدماء المصريين بدل اللغة الهيروغليفية. إن سهير خريجة تاريخ وتدرك فداحة هذا الخلط، وهي قد سارعت إلى تنبيه المدير فاستهجن تدخلها في كلمته ووعد بمعاقبة سكرتيرته التي أطلعتها على الخطاب.. لم يعتذر عن الخطأ أو يبرر الأمر بأنه سهو بسبب الاستعجال، لكنه تجهم في وجهها وما عاد يسند إليها سوى أعمال طباعية متراكمة. لقد عمل التصحيح المطلوب وأنقذ ماء وجهه، ولم يتكرم على سهير بكلمة: شكراً.

منيرة.. المرأة القديرة في عملها عبء أحياناً

أن تكون المرأة قديرة في عملها فهو عبء في بعض الأحيان أكثر منه ميزة. هذا ما تؤكده منيرة التي تعمل مربية في روضة استثمارية للأطفال. لقد أمضت أكثر من ربع قرن من حياتها وهي تتعامل مع الأطفال في أعمار مبكرة، كما ربت أربعة أبناء وصار لها حفيدان. ورغم خبرتها في ميدانها فإن المفتشة التربوية الجديدة تقول لها بأن أسلوبها قديم وهي تحتاج لدخول دورة تدريبية على الأساليب الحديثة والتعاطي مع الأطفال وفق مفهوم «الجندر». ومنيرة ليست جاهلة، فهي تتابع أحداث العالم وتتفرج على برامج تربوية أجنبية وتدرك ما المقصود بهذا المفهوم. وهي قد حاولت أن تتناقش مع المفتشة حول الموضوع ومدى تطابقه مع مفاهيم مجتمعنا. وكانت النتيجة أن المشرفة قدمت تقريراً توصي فيه بأن تهتم منيرة بشؤون التغذية والرياضة فقط.

موظفات يتظاهرن بالسذاجة ويلتزمن سياسة "التطنيش" لضمان البقاء في الوظيفة

نهى.. مديرها يمدحها ويسرق أفكارها

أما نهى، وهي مصممة إعلانات في شركة فنية، فإن حكايتها مختلفة. إن مدير القسم يؤمن بقدراتها ولا يتوقف عن امتداح عملها، وهو مديح يبقى بينه وبينها ولا يمكن أن يتفوه به أمام رئيس الشركة أو باقي الزملاء. ونهى ما كانت لتنزعج لولا أن المدير يسرق أفكارها وينسبها لنفسه. وهو يتلقى المكافآت في حين لا تحصل هي على شيء. هل تفضحه وتعرض تصاميمها على الزملاء قبل تقديمها للمدير؟ وما النفع الذي ستجنيه؟ لقد جربت الحديث عن الأمر أمام إحدى الزميلات فدارت النميمة ووصلت إلى المدير. وهو لم يعاتبها بل راح يطعن في شخصيتها ويتهمها بأنها مزاجية وتتأخر في إنجاز المطلوب منها. من يومها وهي راضية بالظلم. تكتم ضيقها وتمتدح أفكار المدير التي هي أفكارها في الأساس.

حين تدعى نهى لعرض مشروعاتها المقترحة على الإدارة، فإنها تعلمت أن تبدأ كلامها بشكر مديرها الذي يشجعها ويتبنى أفكارها. وترى نهى أن المرأة المبدعة تحتاج إلى سنوات ضوئية مقبلة لكي يؤمن المجتمع الذكوري بإبداعها، وتضيف «حتى كوكب الشرق أم كلثوم ارتدت زي الرجال في بداياتها لكي تتمكن من إسماع صوتها للناس. أما فيروز فما كانت وصلت هذه المكانة بدون مساعدة الرحبانيان».

إذا قدمت عملاً متكاملاً قيل إن زوجها ساعدها فيه. لا أحد يقول إن فلاناً تساعده زوجته في إبداعه. إنها في أحسن الأحوال تهيئ له ظروف العمل المناسبة في البيت. أما إذا ظهر ضعف في عمل المرأة فلأنها عديمة الكفاءة وتحلم بمكانة لا تستحقها، وقد يقال إنها تتملق المديرين لكي تتسلق السلم بسرعة. فإذا كانت جميلة فتلك الطامة الكبرى إذ لا يمكن، في عرف هؤلاء، أن تجتمع الموهبة مع الجمال.

لا أحد يتهم الرجل بمثل هذه التهم مهما كان شغله ناقصاً أو ضعيفاً. لا أحد يشكك، عموماً، في سلوكه أو يراقبه بعين الحسد والتهديد بقطع الرزق. ويحدث أن يحسده زميل لكنه يستطيع أن يشتكي وأن يدافع عن نفسه بدون وجل من العواقب.

ورغم الضغط العصبي الذي تلاقيه النساء حين تتعرضن للتقليل من قدراتهن، فإن هناك من تتعامل مع الأمر وكأنه طرفة تستدعي الضحك لا الحزن. من هؤلاء مريم التي تسجلت في دورة لتطوير المهارات في الترجمة الفورية. إن أحد المحاضرين في الدورة يستخدم مفردة «شيفوني» للتدليل على «شوفيني»، وهي قد حاولت أن تصحح له اللفظ وتوضح له بأن الشيفون هو نوع من القماش الشفاف في حين أن الشوفينية نوع من العنصرية، لكنه ضحك بصوت عال وسخر من توضيحها. وضحك بقية المشاركين في الدورة وتندروا حول ملاحظتها، رغم أن بينهم من يدرك صواب كلامها. وفي النهاية شاركتهم مريم الضحك وبقيت تضحك حتى بعد توقف الجميع. وحين عادت للبيت وقصت الحادثة على زوجها، بقيا يضحكان قبل العشاء وبعده، وقبل النوم وحتى عند الاستيقاظ.

 

مقالات ذات صلة