30 يناير 2021

د. حسن مدن يكتب: نلتقي أقل.. نتحدث أكثر

كاتب بحريني، يكتب زاوية يومية في جريدة "الخليج" الإماراتية بعنوان "شيْ ما"، صدرت له مجموعة من الكتب بينها: "ترميم الذاكرة"، "الكتابة بحبر أسود"، "للأشياء أوانها"، &a

د. حسن مدن تكتب: نلتقي أقل.. نتحدث أكثر

مضى زمن طويل جداً على قصة للأديب يوسف إدريس عن عصفور تعب من الطيران فحط على سلك تلفون ممدود بين عمودين، وتشبث بمخالبه عليه، غير عارف بأن السلك القديم، الصدئ، في دواخله حيوات، بأصوات بشر يتبادلون الكلام. 

أحصى الكاتب سبع مكالمات كانت تدور في تلك اللحظة من خلال هذا السلك. مجموعة من الأصوات تحمل التحية والاستغاثة والرجاء والعتاب وكلمات الشوق والوجد والعتب واللوم. وتتمازج هذه الأصوات لتتحول إلى إلكترونات متشابهة؛ كلمة الحب تحمل نفس الشحنة التي تحملها كلمة البغض، كهرباء الصدق، في السلك، هي نفسها كهرباء الكذب، اللوعة كاللعنة.

ربما لم تعد موجودة أسلاك الهاتف الممدودة بين الأعمدة، كتلك التي حط العصفور على واحد منها، فتقنية خطوط الهواتف تطورت، بل ربما لم تعد الحاجة إليها قائمة، على الأقل بالنسبة للهواتف المحمولة، ولكن الهواتف نفسها، أياً كان نوعها، ثابتة أم محمولة، ما زالت تضج بذبذبات الأصوات، ولكل صوت ذبذباته، وليس شرطاً أن نرى صورة المتحدث حتى نتيقن من أن الصوت هو صوته.

هل سبق لأحدنا أن أحصى كم من الوقت ينفقه يومياً في التحدث بالهاتف مع الآخرين، سواء كانوا أحبة أو أقارب أو أصدقاء، أو حتى مع آخرين تجمعنا بهم علاقات عمل؟

لو أجرينا استبياناً في دائرة معينة من الناس محوره هذا السؤال، لوجدنا، بالتأكيد، تفاوتات في كمية الوقت الذي تستغرقه الأحاديث الهاتفية، يومياً، بين شخص وآخر، تبعاً لاتساع أو ضيق دائرة معارفه وعلاقاته، وأيضاً لطبيعة شخصيته، فهناك أشخاص يمكن أن نصفهم بـ«الحكائين»، يميلون للاستطراد في محادثاتهم، وبالعكس هناك من هم ميالون إلى الإيجاز حد الاقتضاب الشديد.

في ظروف جائحة «كورونا» لاحظت إحدى الدراسات أن مكالمات الناس الهاتفية في بلد أوروبي كبير ومهم مثل ألمانيا، ارتفعت بمتوسط مقداره 35 ثانية مقارنة بمعدل متوسط العام الماضي، أما مكالمات الخطوط الأرضية فقد بلغت 3 مليارات مكالمة، وارتفع عدد المكالمات النقالة لدى شركة اتصالات واحدة فقط بمقدار نحو نصف مليار مكالمة ليصل المجموع إلى 28 مليار مكالمة، فضلاً عن الاتصالات عبر تطبيقات الإنترنت المختلفة، مثل «سكايب» و«واتساب»، وغيرهما مع شيوع استخدام الاتصالات المرئية.

يبدو هذا مفهوماً في ظروف الحجر والتباعد وتقنين التواصل المباشر حتى بين الأقارب، حيث جرت الاستعاضة بالأحاديث الهاتفية لتعويض ما كان يجري من أحاديث في اللقاءات العائلية المباشرة أو في الجلسات المشتركة للأصدقاء في المقاهي أو النوادي، أو في أماكن العمل من المكاتب والشركات وما إليها. لقد بتنا نلتقي أقل، لكننا نتحدث أكثر.