يقف متحف الكاريكاتير المصري على تخوم قرية تونس التابعة لمدينة الفيوم، مثل مجلد ضخم، يروي للزائرين فصولاً من تاريخ النكتة المرسومة في مصر، عبر عشرات من اللوحات الكاريكاتير التي أبدعتها أنامل الرسامين المصريين، ونشرتها الصحف والمجلات المصرية، منذ عشرينيات القرن الماضي، ما يجعله بحق سجلاً عامراً لهذا اللون البديع من فنون التحرير الصحفي.
يحفل المتحف الذي أسسه الفنان التشكيلي المصري محمد عبله، والذي يعد الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط، بالعديد من اللوحات التي ترصد تاريخ الصحافة المصرية، منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، والتي تم نشرها في العديد من المجلات الساخرة، التي صدرت في تلك الفترة، وعلى رأسها مجلة الكشكول، التي أسسها الصحافي والسياسي المصري سليمان فوزي، في عام 1921، وعرفت ببراعتها في فنون الفكاهة السياسية.
كانت مجلة الكشكول واحدة من أبرز المجلات الساخرة في مصر، وقد وقفت لحزب الوفد الحاكم حينذاك بالمرصاد، عبر نقد زعيمه التاريخي سعد زغلول، وسياسات الحزب المنحازة للقصر الملكي، عبر عشرات من الصور واللوحات الكاريكاتورية والمقالات الساخرة، ولم ينافسها في ذلك بعد حين سوى مجلة «المطرقة»، التي أسسها صدقي باشا حينما كان رئيساً للوزراء، وكانت تصدر أسبوعياً ما بين ثمانية الى اثنتي عشرة صفحة، لتتحول مع مرور الوقت إلى اللسان الشعبي لحزب الوفد، بما تنشره من فكاهات وأزجال ومواد أخرى بلغت حد السخرية من صدقي باشا نفسه وحكومته.
ويرجع كثير من الباحثين تاريخ ظهور الصحافة الفكاهية في الوطن العربي إلى أواخر القرن التاسع عشر، خلال فترة حكم الخديوي إسماعيل في مصر، عندما أصدر يعقوب صنوع في عام 1876، أول مجلة فكاهية تحت اسم «أبو نضارة»، وقد استقبل المصريون المجلة في تلك الفترة بترحاب شديد، إذ بلغ توزيع الأعداد الأولى منها أكثر من عشرة آلاف نسخة، وهو رقم كبير مقارنة بتعداد السكان وعدد المتعلمين في ذلك الوقت، وقد صدر من تلك المجلة خمس عشرة نسخة فقط، لم يعثر لها على أي أثر في دار المحفوظات المصرية، كما يقول الباحث إبراهيم عبده في كتابه «أعلام الصحافة العربية»، ما يرجح أن تكون قد أحرِقت في وقت من الأوقات، نظراً لما كانت تتضمنه من سخرية لاذعة على القصر الحاكم.
أول صحيفة أدبية تستخدم النقد من خلال السخرية
وتعد صحيفة «التنكيت والتبكيت» واحدة من أشهر الصحف الفكاهية التي صدرت في مصر، خلال تلك الفترة، وقد أصدرها عبد الله النديم الملقب بخطيب الثورة العرابية، في عام 1891، كأول صحيفة أدبية تهذيبية، تستخدم النقد من خلال السخرية، وقد كان النديم يدبج فيها مقالاته تحت عنوان «أيها الناطق بالضاد»، مدافعا عن اللغة العربية الفصحى، في مواجهة دعوات التغريب وهيمنة الثقافة الإنجليزية والفرنسية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وقد نجحت الجريدة، حسبما يقول إبراهيم عبده، في استمالة وشد انتباه شريحة واسعة من القرّاء، بسبب محتواها الذي كان يخاطب البسطاء من المصريين بلغة سهلة وبسيطة.
كانت السُخرية هي السمة الغالبة على الخط التحريري لصحيفة «التنكيت والتبكيت»، وهو ما جعل من النديم الأب الروحي للكتابة الساخِرة في مصر، إذ صارت السخرية بصمة من البصمات المميزة له في مجال الكتابة الأدبية، سواء فيما كان ينشره من نثر وأزجال، فقد كانت سخريته لا تقتصر على اللفظ حسبما كان سائدا في فنون السخرية القديمة، التي كانت تعتمد على التورية أو التجنيس اللفظي، وإنما كانت تنفجر من المواقف، وهو ما تجلى في العديد من أعماله المسرحية وقصصه المنشورة، بل ومقالاته التي كانت تحفل بالعديد من المواقف الإنسانية التي تفيض منها روح السخرية التي كانت تتجاوز في كثير من الأحيان حد المُبالغة، فتقترب إلى فنون الهجاء، وقد دفع النديم ثمن ذلك فادحاً، عندما نفي إلى يافا في فلسطين لفترة من الزمن، قبل أن يعود إلى مصر في بداية عهد الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1892.
يلفت متحف الكاريكاتير نظر الزائرين إلى قرية تونس المشهورة بأعمال الخزف، وبمعماره المتميز، وتصميمه المبني من الحجر الأصفر، إذ تثير قبته الكبيرة، المبنية على طراز عمارة حسن فتحي، فضول الرواد، وهي تنتصب وسط المساحات الخضراء الشاسعة التي تحيطه من كل جانب، مزينة بالأشجار والزهور.
ويضم المتحف عدة غرف تتزين جدرانها بعشرات من اللوحات الكاريكاتيرية لأعظم الرسامين المصريين على مر التاريخ الحديث، وقد خصص محمد عبلة غرفة خاصة تضم العديد من مقتنياته، وتروي للزائر تاريخ المتحف، إلى جانب غرفة أخرى تضم عدداً من رسوم الكاريكاتير السياسي، وثالثة خصصت لرسومات تحت عنوان «مصر عبر العصور»، وفيها من اللوحات ما يحكي تاريخ مصر، على مدار قرن من الزمان، بدءا من الحملة الفرنسية، مرورا بالحروب التي تعرضت لها مصر، خلال هذا القرن. ويقول إبراهيم، نجل الفنان محمد عبلة «أنشأ والدي هذا المتحف عام 2010، تحقيقاً لحلم الرسام الكبير الراحل زهدي العدوي، ونجح في أن يجمع على مدار أكثر من عشرين عاما عدد من أندر رسومات الكاريكاتير، وبعضها يرجع تاريخه إلى عام 1919، حتى بلغ عدد مقتنيات المتحف أكثر من سبعمائة لوحة، تعكس ملامح الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر على مر العصور».
لعب مهرجان تونس للفنون، الذي تنظمه قرية الخزف الشهيرة، دورا كبيرا في التعريف بمتحف الكاريكاتير، فضلا عن اهتمام قطاع كبير من رسامي الكاريكاتير المصريين به، فشكلوا له مجلس إدارة فيما بينهم، قرر أن يكون الدخول بتذكرة لا تزيد على عشرة جنيهات، حتى يتمكنوا من سداد الرسوم الخاصة بالكهرباء والمياه. ويضيف إبراهيم «بعد أربع سنوات من افتتاح المتحف، ذاع صيته وتسابقت الأفواج السياحية على زيارته، بل إن كثيراً من فناني الكاريكاتير ينظمون فيه الآن العديد من الدورات التدريبية للمبتدئين، مقابل رسوم رمزية، وقد كان المتحف سبباً في اتجاه عدد كبير من الفنانين والمبدعين المصريين للاستقرار بالمنطقة التي تعج اليوم بالعديد من الكتَّاب والرسامين، نظراً لطبيعتها البكر، وهدوء الأحوال».
يضم المتحف بين مقتنياته أعمالاً لنحو خمسين من فناني الكاريكاتير المصري، إلى جانب عشرات من النسخ الأصلية لعدد من فناني الكاريكاتير المصريين والعرب والأجانب، الذين أبدعوا في هذا المجال منذ عام 1930 وحتى الآن، ومن أشهر هذه اللوحات بعض أعمال الرسام الأرمني الشهير صاروخان، إلى جانب مجموعة نادرة من أعمال حجازي ومصطفى حسين وصلاح جاهين، وجورج البهجوري، وطوغان، أحمد عز العرب.
ومؤخرا حصل المتحف على عدد كبير من المقتنيات الخاصة لعدد من كبار فناني الكاريكاتير المصري، ومن اشهرهم الراحلين الكبيرين محيي الدين اللباد وطوغان، إضافة إلى أعمال الفنان الشاب سمير عبدالغني الذي يعد أبرز الداعمين للمتحف.
تصوير: أحمد محمد