10 أبريل 2022

د. باسمة يونس تكتب: شرف الوقت

كاتبة إماراتية، دكتوراه في القيادة التربوية. أصدرت (10) مجموعة قصصية، (4) روايات،(12) نص مسرحي وعدة أعمال درامية وإذاعية .حاصلة على أكثر من( 22 ) جائزة في مجالات الرواية والقصة والمسرحية

د. باسمة يونس تكتب: شرف الوقت

يقول «ابن الجوزي» في كتابه «صيد الخاطر»: «كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث وأقعد على نهر عيش، فلا أقدر على أكلها إلا عند المساء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم». وكان يضن بوقته لأنه يرى أن العمر شرف يجب أن يصان من الضياع، فما بال الناس اليوم يهدرون أوقاتهم على ما لا فائدة منه ولا طائل يرتجى من ورائه؟

وكان «ابن الجوزي» معروفاً بشدة حرصه على الوقت، الذي يعتبره شرفاً يجب صونه من الضياع. وطوال حياته كان لكل ثانية فيها قيمة وفائدة له ولغيره من بعده، فلا يمضي يوماً بدون أن يقرأ ويكتب في جميع علوم عصره.

وعرف بحرصه على ألا يمضي ساعة أو أقل أو أكثر في يومه فارغة أو بلا سبب، إلى درجة جعلته يتجنب إراقة الوقت في الزيارات والأحاديث، لكنه عجز عن منع الناس من زيارته، والذين كانوا يأتون إليه يومياً بغية تجاذب أطراف الحديث معه أو النهل من علمه وسؤاله من معرفته، وفي الوقت نفسه لا يرغب في منعهم عن زيارته كيلا يبدو كمن يقاطعهم فتنبت بينه وبينهم قطيعة موحشة تجعله كغريب بين أهله وفي مجتمعه.

وحاول جهده في تقليل الزيارات ودفعها، لكنه حينما يعييه ذلك ويغلبه الموقف يجلس معهم ويقصر في كلامه ويقضي أغلب الوقت صامتاً علّ الضيف يرحل ويتركه يعود إلى درسه.
ثم وجد نفسه يستغل الوقت الذي يمضيه معهم في أعمال لا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فيغتنمه في التحضير لدراسته وعمله الكتابي يقطع الورق ويبري الأقلام ويحزم الدفاتر.

فما الذي سيفعله «ابن الجوزي» أو يقوله إن رأى تنافس المتنافسين في هدر الوقت في زمننا بحمله الهائل من العلوم والمعلومات، التي يمر عليها ملايين الناس مرور الكرام، فلا يفزعهم أن تنتهي حياتهم فلا يعرفون عنها شيئاً!

وأعدت السؤال نفسه وأنا أرى طلبة المدارس والجامعات يتعجلون التخرج للتحرر من الدراسة وتمزيق الكتب،
فكأن العلم أشغال شاقة، وكأن المتعلم قد حاز بشهادته على شرف العلم وحفظ كل العلوم في ستة عشر عاماً أو أقل أو أكثر بقليل ليمضي بقية حياته عاملاً في وظيفة أو صاحب مشروع أو عاطلاً بلا أمل.

وفكرت بأن قيمة الوقت ترتبط كثيراً بالمفاهيم التي يكبر عليها الفرد في مجتمعه، فهو سيملأ وقته وحياته في التفكير باقتناء الملابس والحلي الثمينة إن كان المجتمع يقيس قيمة الإنسان بالزينة التي يرتديها والعلامات التجارية التي يرصع بها ملبوسه ومقتنياته، وسيتزاحم مع غيره على مقاعد الدراسة إن رأى المجتمع يقدر العلم والمتعلم وقيمته في الحاضر والمستقبل، وسيزداد حرصه على تثقيف نفسه إن رأى مجتمعه يرفع راية الثقافة ويبديها على كل ما هو سطحي وزائل.

وشعرت بمدى مسؤولية كل منا وعبء توعية نفسه والآخرين، فنحن نتعلم ونعلم صغارنا أن هدر الطعام أو المال سلوك لا يقره المجتمع، لكننا نصمت أمام هدر الوقت وكأنه أقل قيمة رغم كونه شرفاً وهبنا الله إياه، وحملنا مسؤولية المحافظة عليه وسنسأل يوماً عما حصدناه فيه.