درج اللبنانيون، من المقيمين في مدن السواحل، على مشارف فصل الصيف، أن يشدوا الرحال إلى بلدات في الجبال المشرفة، لاسيما تلك التي تتعالى فوق وديان وغابات من الصنوبر تمتد وتتهادى حتى تلامس أطراف تلك السواحل.
من عادات كثير من اللبنانيين ألا يفوتوا قضاء أيام هذا الفصل في ربوع تلك البلدات، التي سموها «المصايف»، طمعاً بهوائها الجاف ونسيمها العليل وبرودتها المشتهاة وهرباً من حر السواحل ورطوبتها. وبالتأكيد لا تغيب سمعة لبنان «المصيف»، فيما خص اعتدال مناخه خصوصاً في أشهر الحر من السنة، عن مسامع ومعارف الرعايا الأجانب والعرب، وتحديداً في الخليج العربي، باعتباره أصلح البلدان وأفضلها للاصطياف وقضاء فصل الصيف في ربوعه وبقاعه وفي مقدمتها منطقة جبل لبنان وبلداته.
ورغم ما يعتري أحوال السياسة من صعوبات فإن لبنان يستعد لموسم اصطياف واعد جداً تشير إليه التوقعات الرسمية، ويبشر به القيمون على الحركة السياحية من خبراء ومتابعين، إذ يلاحظون أن حجوزات القادمين إلى لبنان، بين يونيو وأغسطس المقبلين، قد لامست مليوني شخص، وهي نسبة أعلى مما كانت عليه في العام الماضي. وفيما يعرب هؤلاء عن قناعتهم أن مروحة القادمين ستتسع أكثر، سواء بين المغتربين أو بالنسبة إلى الجنسيات العربية والأجنبية، وقد يكون للقادمين من دول مجلس التعاون الخليجي حصتهم من هذا القبيل، لذلك فإن الجميع في بلدات الاصطياف يستعدون على قدم وساق للموسم العتيد واستقبال الزوار.
«كل الأسرة» جالت، لاسيما بالصورة، على أبرز البلدات في منطقة جبل لبنان وتحديداً في اقضية عالية وبعبدا والمتن الشمالي. وكانت المحطة الأولى في مدينة عالية عروس المصايف، التي ترتفع 850 متراً عن سطح البحر، والتي يطل المرء من شرفاتها على تحفة سماوية على امتداد الجبل الأخضر إلى الأفق الفسيح في البحر الأبيض المتوسط.
عالية، التي تجمع بين الأصالة اللبنانية والحداثة في أبنيتها وقصورها وفنادقها، هي قبلة المصطافين اللبنانيين والعرب، وعلى مساحاتها الخضراء شيد الخليجيون وكبار المسؤولين اللبنانيين سكناهم، وهو ما ينسحب على محيطها في البلدات المجاورة من سوق الغرب إلى شملان إضافة إلى ضهور العبادية. ولا تكتمل الجولة في عروس المصايف إلا بزيارة مجمع «بيسين عالية» وبعده المنحوتات في السمبوزيوم، الذي أنجزه في أعاليها عشرات النحاتين اللبنانيين والعرب والأجانب.
ومن عالية إلى بحمدون المحطة وبحمدون الضيعة والجوار، وكلها يستعد لاستقبال الزوار من اللبنانيين المقيمين والمغتربين ومن الرعايا العرب والخليجيين على وجه الخصوص. ومن بحمدون المحطة إلى صوفر التي ترتفع 1350 متراً عن سطح البحر والتي تبعد أقل من 40 كلم عن بيروت، وتحدها منطقة المديرج التي تفصل جبل لبنان عن البقاع متدرجة إلى تخوم ضهر البيدر.
وتزدان صوفر بالمنازل ذات الأسطح القرميدية الحمراء وبأشجار الدلب وسوسنتها البيضاء والمتدرجة إلى اللون البنفسجي الفاتح. ولصوفر أو (عين صوفر) حصة كبرى لدى العائلات البيروتية والمسؤولين اللبنانيين والعرب الذين أقاموا فيها واقتنوا في أرجائها القصور والمنازل الفخمة خصوصاً على طرفي بولفار اميل اده. يذكر أن فندق صوفر الكبير شهد اجتماعات ولقاءات قمة لكبار الملوك والرؤساء العرب أبرزها اللقاءات التي أسست لجامعة الدول العربية، كما أن فندق «شاتو برنينا» كان مقراً لمتصرفي جبل لبنان وقد سكنه جمال باشا السفاح. أما الفرد سرسق، الذي شيد قصر الـ«دونا ماريا»، فهو الذي بنى قصر الصنوبر في بيروت وهو منزل دائم للسفراء الفرنسيين في لبنان.
ومن المديرج إلى بلدة حمانا القائمة في سفح ضهر البيدر، وهي البلدة التي أقام فيها الشاعر الفرنسي لامارتين عام 1833، والتي تشتهر بكرزها وشاغورها(شلالها) وعمران منازلها التراثية مع أسطحها القرميدية الحمراء.حمانا، بلدة الفصول الأربعة ومصيف الكويتيين التقليدي منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم، قال فيها لامارتين «إنها أحد أجمل أعمال الله التي تقع عليها عين الإنسان».. هي لؤلؤة طبيعية وخضراء تطل من عليائها على وادي لامارتين الصنوبري الذي يمتد حتى ساحلي بعبدا والمتن، وتقع في أحد منحنياته قناطر زبيدة التاريخية. الجدير بالإشارة، أن لامارتين أقام في قصر «ال مزهر»، وهو من أروع الابنية التراثية القائمة على الصخر الشاهق، وملاصق للسوق القديم أو ساحة الميدان التي أنجز فيها تصوير مسلسل«الهيبة».
ولا تذكر حمانا إلا ويذكر شلالها المتدفق المسمى ب«الشاغور» ومدينتها الرياضية تبرع بها المغترب كارلوس سليم. وتنتشر منازل الكويتيين وقصورهم في أنحاء حمانا ومحيطها بدءاً من الشبانية مسقط رأس الرئيس الراحل الياس سركيس، كذلك في فالوغا التي رفع فيها اللواء جميل لحود العلم اللبناني لأول مرة في زمن الانتداب الفرنسي في غابة أرز تعلو البلدة وقد سميت على اسمه.
وفالوغا بلدة صنوبرية خضراء تنتشر فيها المنازل القديمة التي يعلوها القرميد الأحمر وتشتهر بمعمل مياه الصحة في أعلاه وكذلك بالبرك في مرتفعاتها، وقد وصفها لامارتين بقطعة سماء، ويعتبر بناء مجلسها البلدي أثرياً إذ كان أحد قصور آل أبي اللمع.
ويمتد الشريط الاصطيافي من فالوغا في أعالي بعبدا، مع ردائه الصنوبري الأخضر، إلى أعالي المتن في بولونيا وضهور الشوير من ناحية، وإلى وسط المتن الشمالي بدءاً من بكفيا وصولاً إلى برمانا وبيت مري. وهذه الأخيرة تمتاز بقصورها وفللها ومنازلها إضافة إلى آثار دير القلعة الرومانية التي يطل منها المرء على أجمل المناظر حتى بيروت، ولفندق «البستان» فيها تاريخه الثقافي والفني بمهرجانه السنوي وبإقبال اللبنانيين والعرب عليه منذ عشرات السنين حتى اليوم.
أما برمانا أو مدينة الورد فهي تحفة صنوبرية خضراء وتعتبر على رأس قائمة المدن الخالية من التلوث وهي محاطة من على الجانبين برداء طبيعي ونقي، وهي مؤهلة لكل أنواع السياحة، فهناك الفنادق والشاليهات والمجمعات والشقق المفروشة الضخمة، وهناك كل أنواع المطاعم والمقاهي والملاهي التي تتناسب مع مختلف الأذواق طيلة الفصول الأربعة. وتجد في برمانا أروع أشكال البناء القديم التراثي والعصري من منازل وبنايات وقصور تعود للبنانيين والخليجيين وسواهم على حد سواء، وفيها متسع كاف للرياضات البيئية والنشاطات الطبيعية إضافة إلى صروحها التربوية والثقافية العريقة، في طليعتها مدرسة برمانا العالية. وعلى ذلك تعتبر برمانا من أهم مراكز الاستقطاب السياحي في المناطق المتوسطة الارتفاع سواء للبنانيين أم العرب أم الغربيين.
ثم نصل إلى برناما إلى بعبدات التي فيها حضور خليجي كبير كونها بلدة صنوبرية وهادئة ومميزة بعمرانها، وهو ما ينسحب على محيطها أن باتجاه ضهور الشوير أو باتجاه بكفيا، إذ تتمتع منطقة نعص بكفيا بتاريخ عريق بالسياحة البيئية والتراثية بدءاً من فندق «النعص الكبير» الذي كان يستقطب باشاوات مصر. وفي نطاقه الصنوبري والبيئي الفريد عدد كبير من المنازل والقصور والمطاعم والفنادق. وكانت للنعص شهرته بمياهه التي كانت توصف علاجاً للكثير من الأمراض. ولبكفيا شهرتها بدراق البكوك والشيخاني، وقد تحول السراي اللمعي فيها إلى مقر صيفي لرئاسة الجمهورية.
أما الشريط الممتد من ضهور الشوير إلى بولونيا فهو صنوبري أخضر ويشهد حركة عمران كبيرة للقصور والمنازل القديمة والمميزة بتراثها اللبناني القديم. ومن فندق غابة بولونيا الكبير، الذي أقيم في ظل الانتداب الفرنسي، إلى ساحة ضهور الشوير، واحة من البيئة المؤاتية للاصطياف التي جذبت اللبنانيين والعرب والخليجيين منذ عشرات السنين حتى اليوم. ويعتبر فندق القاصوف خير شاهد على أمجاد المنطقة، وخير دليل على ما عبثت به يد الإنسان في الحرب اللبنانية وما يحتاج إليه لبنان من استكمال لإعادة الإعمار تمهيداً لإعادة الانطلاقة نحو مستقبل زاهر وواعد.
إعداد: شانتال فخري