ما أكثر ما يصادفنا في الحياة أناس أميل إلى الصمت منهم إلى الكلام. قد يكون هؤلاء في دائرة معارفنا من الأصدقاء والأقارب الذين لا يبادرون إلى التحدث، وحتى لو فتحنا معهم حديثاً فهم أميل إلى الاقتصاد في الكلام، وقد يكون هؤلاء من الغرباء، الذين قد نصادفهم في عربة قطار، أو يكونون في المقعد المحاذي لنا في رحلة طيران، الذين حتى لو بادرت بطرح سؤال عليهم، أو محاولة مشاركتهم الحديث، لن تجد منهم ما توقعته من تجاوب أو تفاعل.
يحكى أن الزعيم الهندي المهاتما غاندي كان يخصص يوماً واحداً في الأسبوع للصوم، ولكن ليس للصوم عن الأكل، إنما عن الكلام، لا يخاطب فيه أحداً ولا أحد يخاطبه، حتى ولو لم يعتكف «لأنه كان يجد في الصمت خلوة ذهنية يستطيع أن يفكر فيها دون أن يرتطم ذهنه بسؤال أو اعتراض»، لكن من عنيناهم من البشر الصامتين، ليسوا في حاجة إلى اتباع وصفة غاندي، لأنهم مسرفون في الصمت، ولديهم منه ما يكفي، كما أنهم ليسوا بحاجة لمن يعلمهم أن «السكوت من ذهب»، على ما تروي الحكاية عن رجل عجوز وحيد في بيته، اتفق مع أحدهم أن يجالسه والتحدث معه ورواية القصص له منذ الصباح حتى المساء، فأعطاه العجوز المال جزاء لذلك.
في البداية استمتع العجوز بالأمر، لكنه سرعان ما شعر بالملل، وعندما جاء الرجل لمحادثته طلب منه ألا يتحدث، بل يكتفي بمجالسته بصمت، ولما غادره أعطاه مالاً كثيراً، ليخرج الرجل ويقول في نفسه: إذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب.
أكثر الصامتين مدعاة لفضولنا هم أولئك الذين نصادفهم وحيدين في مقهى من المقاهي مثلاً، لا يشاركهم أحد طاولتهم وفنجان قهوتهم، وقد لا يكونون منشغلين بشيء ما، كالقراءة في كتاب أو تصفح هواتفهم. يكفيهم الجلوس صامتين.
ألا يخطر في بالنا ساعتها السؤال عما يفكر فيه هؤلاء، أتكون أذهانهم ونفوسهم صافية من الهموم والمشاغل، وأنه يروق لهم أن يجلسوا صامتين وحيدين في خلوة مع الذات، أم أن العكس هو الصحيح، فأكوام من الهموم ترمي بثقلها عليهم، وأن صمتهم، الذي يبدو لنا رائقاً، ليس كذلك في حقيقة الأمر، فهم يجدون في هذا الصمت مهرباً أو ملاذاً مما يضغط عليهم من متاعب، يفضلون أن تبقى طي نفوسهم وألا يشاركوا فيها أحداً، مهما كانت درجة قرابته إليهم، ولو جربت أن تنظر في عيونهم لوجدتها ناطقة بالحديث الصامت، حزناً أو فرحاً، تبعاً للحال التي هم عليها لحظتها، وهذا ما يقصد به حين الحديث عن «لغة العيون».