تنتشر أشجار الزيتون في كل لبنان، بدءاً من ارتفاع 300 م فوق سطح البحر، ويربو عددها على 13 مليون شجرة، وتراوح أعمارها بين 1400و2050 سنة.. وأشهرها «زيتون نوح».
شجرة الزيتون أقسم بها رب العالمين، وهو غني عن القسم لعباده، في كتابه العزيز حيث قال: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ»( سورة التين).. وأيضاً امتدح، تبارك وتعالى، الزيتون وزيته، في مواضع أخرى من القرآن الكريم.. ولأنها شجرة مباركة فقد اهتم الناس بزراعتها منذ القدم على سائر الأراضي اللبنانية، من أقصى شماله، مروراً بجباله حتى أقصى جنوبه، وتنتج سنوياً بين 100 و200 ألف طن من الحبوب التي يبدأ قطافها في نوفمبر من كل عام، ويستخدم ثلث هذا الإنتاج على موائد الطعام، أما الثلثان الباقيان فيستخرج منهما زيت بكميات تتراوح بين 15 و25 ألف طن، يُصدّر ربعها تقريباً إلى الخارج.
يتصدر زيتون لبنان زيتون معمّر وصامد في أعالي جبال البترون شمالاً، وقد أصبح أشبه بتاريخ متجذّر في الأرض مع إنتاج من أجود أصناف زيت الزيتون.. إنه «زيتون نوح» في بلدة بشعله، على ارتفاع أكثر من 1200 متر فوق سطح البحر، وقد أثبتت الدراسات أنه الأكثر ارتفاعاً وقِدماً وقدرة على مقاومة عوامل الطبيعة القاسية في لبنان والعالم. وفيما أصبحت «زيتونات نوح» اليوم قبلة للزوار والسياح، فإن اللجنة الوطنية «لليونيسكو» احتفلت، ولأوّل مرّة، في لبنان مع أبناء بشعله، باليوم العالمي للزيتون في 26 نوفمبر 2021، وتم افتتاح المتحف البيئي للزيتون في الاحتفال الذي أقيم الشهر الماضي، في بشعله برعاية لجنة «اليونيسكو»، علماً بأن زيت الزيتون اللبناني حصد جوائز عالمية كثيرة، مع توسع انتشار الصناعات الغذائية اللبنانية في الأسواق، العربية والعالمية.
ويشير المؤرّخ الدكتور روني خليل، إلى أن شجرة الزيتون ترمز للقدم والتجذر من خلال جذعها، وللتطلّع إلى السماء من خلال أغصانها، وإلى الحياة المتجددة بأوراقها الدائمة الخضرة، إلا أن السلام هو على رأس قائمة ما ترمز إليه شجرة الزيتون. ويضيف خليل «أما زيتون بشعله، فقد سُمّي بزيتون نوح، انطلاقاً مما ذُكر عن النبي نوح، الذي اطلق حمامة بعد الطوفان على الأرض، لتعود إليه بغصن زيتون شكّل له الدليل الحسّي على انحسار الطوفان، وعودة اليابسة إلى الظهور».
وفي هذا الإطار، تلفت رئيسة جمعية «دروب بشعله»، رانيا جعجع، إلى أن زيتون بشعله الذي يرتفع أكثر من 1200م فوق سطح البحر هو الأعلى، في لبنان والعالم، ما يفسّر علميّاً، بأن غصن الزيتون الذي التقطته حمامة نوح كان من إحدى الأشجار في بلدة بشعله، حيث لاسمها تفسيرات عدة، أبرزها المكان العالي باللغة الآرامية، نسبة إلى قلعة الحصن التي تحتضن صخرة تعود إلى العهد الفينيقي، وكانت الذبائح تقدم عليها.
وتنتشر أشجار الزيتون في مختلف أنحاء بشعله، أقدمها 12 شجرة معمرة، إحداها يرجّح أنها غصن الزيتون الذي حملته حمامة نوح، وبات من أكبر أشجار الزيتون المعمرة في البلدة، على حدّ قول جعجع.
وتقصد بشعله أعداد كبيرة جداً من اللبنانيين، المقيمين والمغتربين، ومن السياح، ولزيتونات نوح في البلدة نصيبها الكبير في جولاتهم التي تشمل المشي في الطبيعة، وعلى 7 دروب تمتد على مساحة 28 كلم. ويُروى أن الجيش الفرنسي كان يركن إحدى آلياته، قبل انسحابه من لبنان عام 1946، في جوف كبرى هذه الزيتونات التي تبلغ استدارتها نحو 28 م. وتوضح جعجع أن دراسة أجرتها جامعة أريزونا الأمريكية على هذه الزيتونات أظهرت أن عمرها يتراوح ما بين 1400و2050 سنة، ما يجعلها أقدم زيتونات معمّرة تقع في أعلى نقطة جغرافية عن سطح البحر، في لبنان والشرق الأوسط والعالم.
إلى ذلك أظهرت دراسة بين الجامعة اللبنانية وجامعة مونبلييه الفرنسية، أن زيتون بشعله هو بمثابة الأصل لأصناف الزيتون البلدي في لبنان، كما أظهرت الدراسة عينها وجود قرابة جينيّة مؤكدة بين زيتون بشعله، مع بعض أصناف الزيتون في قبرص واليونان، ما دفع إلى فرضية أن يكون «زيتون نوح» بمثابة السلف لأشجار الزيتون في جزر الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
ويُلاحظ زائر بشعله أن «زيتونات نوح» أشبه بلوحات رائعة صنعتها الطبيعة على مرّ العقود، ولا يستطيع إلّا أن يتوقف أمامها، ويتأمّلها مليّاً، ويستخلص عبْرها العطايا الإلهية ونِعَمها، فكل شجرة منها عبارة عن تحفة قائمة بذاتها، ويعجز الوصف الكتابي عن إيفائها حقها، حتى أن الشجرة الأكبر بينها تبدو للناظر إليها أشبه بعدد كبير من الأشجار المتلاصقة. وتشير جعجع إلى أن «زيتونات نوح» زرعت يدوياً منذ القدم بشكل متناسق، وبمسافات محددة، ودقيقة، ما يدل على وجود حياة زراعية واجتماعية في بشعله تعود إلى تلك الأيام الغابرة.
* بيروت: شانتال فخري
إقرأ أيضاً: مسجد شكيب أرسلان في لبنان.. رسالة سلام وتعايش معمارية