مع مرّ السنوات، تتراكم عواطفنا المكبوتة، والطاقات السلبية المرافقة لها، في داخلنا، ما يؤدي إلى حرماننا من الكثير من إمكاناتنا. وإذ لا نعير انتباهاً طوال هذا الوقت إلى كل المؤشرات الصادرة عن جسمنا، يصير المرض وحده، الطريقة الوحيدة التي تجبرنا على الإصغاء إلى أنفسنا. فما الذي يجبرنا على انتظار حالة التشبّع هذه؟ وكيف يمكن أن نتحرك من أجل أن نقوم بعملية «تنظيف» شاملة لكل هذه الملوثات العاطفية؟
نجد إجابات مثل هذه الأسئلة المهمة وغيرها في كتاب «الديتوكس العاطفي»، وهو من تأليف د. حبيب صادقي، الذي يؤكد أننا حين نتألّم، نميل إلى التركيز على سبب الألم، سواء أكان مرضاً، أم فقدان عزيز، أم علاقة صعبة، أم عملاً محبطاً.. لكن كثيراً ما ننسى أن المشكلة، بحد ذاتها، ليست بأهمية الطريقة التي نقاربها فيها. فكل مرض، وكل همٍّ، وكل تجربة سلبية، تقدم لنا خياراً، يمكن أن نقول لا حظّ لنا، وإننا محطّمون، وقد انتهى أمرنا، كما يمكننا أن نختار تخطّي الأضرار الخارجية لنكتشف الكنوز الكامنة في داخلنا، والتي كنا نجهل وجودها حتى تلك اللحظات.
ويمكن للضيق النفسي أن يظهر على شكل مرض، وكذلك على شكل كدر، أو انفصال عن الواقع أو عجز أو اكتئاب.. ومهما كانت المشكلة، فإن الوضوح هو المفتاح، فهو يقدّم إطاراً من أجل الشفاء العاطفي والبدني، والإحساس بقوة أكبر، والتحرّر من الطاقة السلبية والتوتر المتراكم.
من أجل بلوغ هذا الهدف، لا حاجة إلى أن نتعلم أن نحب أنفسنا، ولا أن «نفكّر بطريقة إيجابية»، بل العكس هو المطلوب: من أجل أن تبلغوا درجة أكبر من الوضوح، عليكم بفتح الباب أمام عواطفكم واستقبالها، سواء أكانت إيجابية أم سلبية. فحين تفسحون لها المكان الذي تستحقه، تصير جزءاً من الأنا الأصيلة، وتمكّنكم من اكتشاف القوة والمحبة الكامنة في داخلكم، والتعبير عنها.
الوضوح هو ما يمكّنكم من رؤية أحداث الحياة المؤلمة على أنها فرص للتحرر من الحدود، ولسكنى النفس الأصيلة، والتقدم في الحياة.
فوائد الوضوح في الحياة اليومية
امتلاك وضوح الرؤية الداخلية يعني أن تمتلك المساحة النفسية الضرورية من أجل معالجة وفهم كل ما يحصل معك، كل التجارب التي تعيشها وكل الأفكار التي تجتاز ذهنك، وكل الانفعالات التي تشعر بها. هذا وأكثر. وفي البداية، لا شك في أن آلية الإيضاح تتركز على «تنظيف» المنزل الداخلي. ربما وجب عليك أن تبدأ بكل المشاعر المكبوتة أو الصدمات غير المعالجة التي لوّثتك من الداخل. ومتى فعلتم هذا بالنسبة إلى ما مضى، ونظّفتم تماماً محتوى النفس، ستكونون قادرين على اتّباع نظام يمكّنكم من القيام بهذه العملية يومياً، حتى تحافظوا على تلك النظافة التي حصلتم عليها. وحينئذ ستلمسون التغيّرات التي أحدثتموها.
ستجدون أنفسكم أفضل تسليحاً أمام مصاعب الحياة، وستكونون قادرين على الاستمتاع بشكل أعمق باللحظات الجميلة، وعلى مواجهة الوضعيات الصعبة بسهولة أكبر. ستكونون أكثر مرونة وقدرة على توجيه حياتكم في الاتجاه الذي تريدونه لها. إن الامتناع عن الحكم على النفس، وعلى الآخرين، وكذلك عدم كبت المشاعر والتجارب السلبية، يعني التحرر من عبءٍ ثقيل. فالوضوح يحسّن الصورة، ويرفع من تقدير الذات لتكون النتيجة الفورية هي إحساس بحرية أكبر.
حين نأكل، يستوعب الجسم مادة غريبة عنه، وتقضي آلية الهضم التي تحافظ على حياتنا بأن نحتفظ بهذه المواد الغريبة في الجسم مدة كافية، حتى يتم تحليلها، ثم استيعاب المغذّيات منها، والتخلص من الباقي كله. ونحن نهضم التجارب العاطفية بالطريقة ذاتها تقريباً. عند إحساسنا باضطراب نتيجة حدث ما، يجب أن نحتفظ بالشحنة الانفعالية التي تنتجها مدة كافية من أجل معالجتها. هذا يعني أنه ينبغي أن نترك للانفعالات مجالها والتفكير فيها، في الوقت نفسه، مع إدراكنا أن كل تجربة سلبية تحمل معها معلومات أساسية تساعدنا على التقدم. وسيتم هضم التجربة بنجاح حين نكون استخرجنا منها حسَناتها، تاركين التفاصيل الأخرى (الحكم على الذات، الشعور بالذنب أو بالخجل مثلاً)، جانباً. فهضم التجربة العاطفية يعني معرفة كيفية الإحساس بها، والتفكير فيها.
قوّة الكلمات في التحرر من الطاقة السلبية
نحن جميعنا بحاجة إلى طريق للوصول إلى انفعالاتنا، وإلى وسيلة لتنظيفها وإخراج السلبية منها، بواسطة نظام معالجة النفايات النفسية قادر على العمل بطريقة منتظمة. والكلمات هنا تحمل قوة هائلة، سواء أكانت منقذة أم هدّامة، بحسب الطريقة التي نختار أن نستعملها بها. والكتابة الحرة أداة فعّالة بشكل لا يُصدَّق من أجل التخلّص من الطاقة السلبية المختزنة في القلب والذهن. وإذا كانت عادة كتابة المذكرات اليومية لا تزال موجودة منذ مئات السنين، فهذا لأنها تخدم هذا الهدف بنجاح كبير.
إن كل انفعال يولد طاقة إيجابية أو سلبية، تمارس على الجسم أثراً حقيقياً وقابلاً للقياس. أما فعل الكتابة فهو يمكّننا من التحرر من جزء من الطاقة السلبية. كما أن إحراق الورقة التي كتبنا عليها، وهو ما أود منكم أن تفعلوه عندما تنتهون من الكتابة، يسمح بالتخلص أكثر من تلك الشحنة الانفعالية، لأنه يرمز إلى ترك الانفعال يذهب في حال سبيله. وفي حال نجحتم في الانعتاق بانتظام من الطاقة السلبية ستحولون دون تراكمها.
ويعمل هذا التمرين بشكل أفضل إن كتبتم بنَفَسٍ واحد من دون توقف للتفكير، أو مراجعة، أو تصحيح. لا تأبهوا لعلامات الترقيم، أو لجمال الأسلوب، أو مقروئيته. في الواقع قد تبلغون نقطة تنسكب فيها انفعالاتكم بسرعة كبيرة، وبحدة أكبر، إلى درجة أنكم لن تتمكنوا ربما من تأليف جملٍ صحيحة.. وهذا جيد. اكتفوا بترك القلم على اتصال مع الورقة، وترك أفكاركم ومشاعركم تخرج منكم. فهذه ليست لحظة التهذيب ولا الموضوعية، إنها رؤيتكم للأمور. وعلى أي حال، فإن الصفحات التي تكتبونها ستحرقونها في نهاية التمرين، فلا خوف ممّا يمكن أن يفكر الآخرون فيها، لأن ما من أحد سيقرأها.
ماذا تفعل للتخلص من الشك والخوف؟
حين لا نفهم دور الانفعالات في حياتنا، قد ينتابنا انطباع بأننا لا نملك أي سيطرة عليها. ويولد هذا الشعور بالعجز شعوراً بالشك والخوف من المستقبل، حيث لا نعود نثق لا بأنفسنا، ولا بالحياة، ولا نعود موقنين بأننا نمتلك المخزون الداخلي الضروري لحل مشاكلنا، مهما كانت. كما يتولد عن هذه الشكوك إحساس بالهشاشة يدفع إلى التصرّف بطريقة ضحية لا خيار أمامها إزاء التهديدات التي تواجهها إلا بالدفاع عن نفسها، أو بالهرب منها. وهذا ما يناقض تماماً الرؤية التي يملأها الوضوح، والتي تدفعنا إلى المضي قدماً.
كثيرون هم الذين يخيفون أنفسهم بلا فائدة حين يتخيلون ما قد يحدث لهم، أو حين يطرحون على أنفسهم أسئلة تبدأ بـ«ماذا لو...؟»، وإذا كان الخوف والشك يعيقان التقدم، إليكم هذا التمرين الذي يساعدكم على التخلص منهما:
اجلس ومعك مفكرة وقلم. في أعلى صفحة بيضاء، اكتب ما يخيفك، أو ما يغذّي شكوكك.
اكتب تحته: «وهذا يعني...»
فكّر في الجواب للحظات ودوِّنه
ثم اكتب تحته: «وهذا يعني...»
فكّر مجدداً، ودوِّن جوابك واستمر في عبة السؤال والجواب إلى أن تصير شكوكك ومخاوفك بلا معنى.
إليك المثال التالي:
أنا أخشى من أن يحرمني والدي من الميراث إن حدثته عن المعاملة السيئة التي عاملني بها منذ طفولتي
وهذا يعني؟
يعني أني لن أكون صاحب مالٍ في المستقبل
وهذا يعني؟
يعني أنه ينبغي أن أجد لنفسي عملاً براتب أفضل
وهذا يعني؟
يعني أنه ينبغي أن أكمل دراستي
وهذا يعني؟
يعني أنني لا أملك المال الكافي لمتابعة دراستي
وهذا يعني؟
يعني أنني سأحتفظ بوظيفتي، أو سأنشئ عملاً خاصاً بي، لست أدري.
الفكرة هنا هي أن ما من أحد يعلم ماذا يخبئ له المستقبل، وأن سيناريوهات الكوارث التي نتخيلها، ونحن نفكر في نتائج الخيارات المطروحة أمامنا، ليست في أغلب الأحيان سوى تخيّلات تحول دون تقدّم مسيرتنا إلى الأمام. حين نفهم هذا الحقيقة، يفقد الشك ومعه الخوف الكثير من سطوتهما علينا.
إقرأ أيضاً: 8 نصائح للتخلص من المشاعر السلبية