مبهجة هي الرحلة إلى «بكفيا الكبرى»، قلب«المتن» النابض وعروسه الساحرة، لأنها تحمل الزائر إلى واحة عابقة بالجمال الطبيعي والبيئة الخضراء والعمران التراثي، المتميّزة أيضاً بالإنتاج الفكري والأدبي، فضلاً عن أنها قِبلة للسياحة لاسيما البيئية منها.
ترتفع بكفيا الكبرى حوالى 900 م عن سطح البحر، وتبعد عن العاصمة بيروت 24 كلم، تتألف هذه الواحة من 4 بلدات، تشكّل بلديتين تضمّ الأولى بكفيا والمحيدثة، والثانية ساقية المسك وبحر صاف، وتحيط بها سلسلة من القرى العريقة..
أبرزها بيت شباب وضهر الصوان وبعبدات، وهي تطلّ على البحر وعلى شريط القرى الكسروانية صعوداً حتى جبل صنين، أما بيوت بكفيا وقصورها فهي تراثية من الحجر وأسطحها من القرميد الأحمر في ما طبيعتها صنوبرية ولأزهارها مكانة متقدمة، وتتميّز بفاكهة الدرّاق الـ«بابكوك» والـ«شيخاني» وخوخ الـ«رانكلوت» الفرنسي، كلّها لها طعمها الفريد.
تعتلي بكفيا شيراً وكتفاً صخريّاً يقسمها إلى قسمين، يضم القسم الأعلى أكثرية المساحات الخضراء، والأسفل المناطق السكنية والتجارية والزراعية، وتعني بكفيا أو «بيت كيفو» بالسريانية «بيت الصخرة»، لبكفيا الكبرى مداخل عدّة، أبرزها من أنطلياس شمال بيروت صعودًا إلى بيت مسك..
وإلى جانبه فندق العامرية، الذي عُرف بـ«جنة لبنان»، نظراً لموقعه على رأس التلّة المطلّ على البحر، شُبِّه بناؤه بالسفينة، وتضجّ في أرجائه ذكريات كبارٍ نزلوا فيه وصور ما أقيم فيه من حفلات ضخمة قبل الحرب اللبنانية.
أما المدخل الثاني، فهو جبلي من صوب بلدتي برمانا بعبدات، وصولاً إلى بحر صاف حيث النعص وضهر الباز اللذين يقعان فوق الشير الصخري، واللذين تغطيهما غابات الصنوبر إلى جانب السنديان والعفص والبطم وغابة الكستناء..
ونظراً لجمال هذه البقعة الخضراء شيّد رعايا خليجيون بارزون قصوراً تمتد على مساحات شاسعة، لاسيما في أنحاء النعص وصولاً إلى تخوم بعبدات.
وللنعص حكايته مع صحة الإنسان؛ نظراً لصيت مياهه الغنية بالمعادن، واعتقاد الكثيرين أنها تسهم في الشفاء من أمراض الحصى والكلى، أما فنادق النعص القديمة، فقد نزل فيها باشاوات وشخصيات وأدباء وفنانون كبار من مصر ودول عربيّة أخرى، يشير يزبك، إلى أن الفنانة الراحلة صباح..
أدت أول أغنية لها في أحد هذه الفنادق. بينما تزدهر حركة المطاعم والفنادق والشاليهات في النعص، الذي توقف العمل في معمل مياهه منذ ثمانينيات القرن الماضي، أما نبعه فلا يزال غزيراً ويزوّد منازل بكفيا بمياه الشفة.
المكان الذي صورت فيه فيروز أغنيتها
ويمكن الإطلالة على بكفيا من عمق كسروان أو من ضهور الشوير، ويلتقي هذان المساران عند حي الدلب، التابع للمحيدثة، والذي يشتهر بأرصفته الحديثة وأشجار الدلب وشبكة مطاعمه العريقة، وانتشار المنازل والقصور..
وفي هذه المقاهي اجتمع الأدباء والشعراء والفنانون وأبرزهم الرحابنة وفيروز وعبد الوهاب وأحمد شوقي، يذكر أن الرحابنة أقاموا فترة في بكفيا، أن فيروز صوّرت أحد مشاهد فيلم «سفر برلك» قرب إحدى عيون المياه في المحيدثة، وتوزّع تصوير جزء كبير منه بين بكفيا وبيت شباب..
وقد صُوّر في أنحاء بكفيا كذلك قسم كبير من فيلم «بنت الحارس» للأخوين رحباني وفيروز، وأغنية فيروز «طيري يا طيارة طيري» قرب ناعور المياه في أقدم مقاهي هذا الحي، إذ كان للطيران الورقي عيد سنوي في الدلب، وهو ما شجع الرحابنة وفيروز على نظم أغنية خاصة به.
ويمكن الوصول إلى بكفيا أيضاً عبر بلدة بيت شباب، حيث وقف لا مارتين، الشاعر الفرنسي، ليطل عليها من فوق ويقول فيها: إنها أشبه بالرمانة الحمراء المفتوحة، وكان أهالي بكفيا الكبرى يعتمدون على الحرير وصناعة قماش الديما الدمشقي الذي انتقل بعد ذلك إلى بيت شباب وعين علق..
وفي فترة لاحقة اعتمد الأهالي على زراعة التبغ. ولا تكتمل الرحلة إلى ساحة بكفيا من دون تذوق بوظة بشير وهي الأقدم في لبنان.
وتتميّز بكفيا ومحيطها بضباب كثيف أحيانًا كثيرة في أثناء الصيف، ويقام في ساحة بكفيا سنويّاً معرضان، أحدهما للزهور، والآخر للدرّاق، في تأكيد على إحياء ولو خجول لمهرجان عيد الزهور، الذي أطلقه المفكر والسياسي الراحل موريس الجميل بين العامين 1935و1974..
حيث توقّف بسبب الأحداث الأمنية في لبنان يومذاك، وفي هذا الإطار يوضّح المؤرخ أنطوان يزبك لـ«كل الأسرة» أن موريس الجميل استقدم عام 1943 زراعة درّاق الـ«بابكوك» من الولايات المتحدة الأمريكية، هو يتميز بطعمه السكري وقلبه الأبيض..
ولاحقًا أقدم شخص من آل شيخاني على تطعيم الـ«بابكوك» فولّد نوعاً جديداً من الدرّاق هو الـ«شيخاني» الذي حافظ على الطعم نفسه إلا أن قلبه أحمر، ويلفت يزبك إلى أن هذا المهرجان كان فريداً من نوعه في لبنان والمنطقة.
وفي التاريخ الحديث خرج من بكفيا عدد من الكتّاب والفنانين والمبدعين في طليعتهم توفيق يوسف عوّاد، الذي أطلق عليه مخايل نعيمة لقب «ناسك الشخروب»، منهم أيضاً عازف البيانو العالمي وليد عقل وشقيقته الرسامة التشكيليّة ندى عقل والفنان التشكيلي شفيق عبود وهو أحد أبرز روّاد الفن التجريدي في العالم العربي.
أما البروز الثقافي والفكري والأدبي والشعري في بكفيا فمرده دائماً -حسب يزبك- إلى قدوم الإرساليات الأجنبية إلى بكفيا، وأن «اليسوعيين» نشروا الوعي والعلم والثقافة في قرى الجبل حتى زحلة والبقاع، هم الذين أسّسوا «جامعة القديس يوسف»، وكثر المفكرون والأدباء والشعراء ورجال القانون والسياسة والقادة الوطنيون.
وكانت المرحلة الذهبيّة بين العامين 1880 و1921، علماً أن الكثيرين هاجروا إلى مصر وأمريكا الشمالية، ثم عادوا إلى الوطن الأم بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أبرز الأعلام الذين خرجوا من بكفيا: إيليا أبو ماضي، ابن المحيدثة الذي هاجر إلى الولايات المتحدة وأسهم في تأسيس الرابطة القلميّة في نيويورك.
بعد عودتهم إلى لبنان، لعب هؤلاء المفكرون والأدباء والشعراء والمشرّعون والإعلاميون أدواراً بارزة على مختلف الصُعد في حياة لبنان وشعبه، فتركوا بصماتهم الإنسانية والوطنية والفكرية والقانونية والثقافية..
ومن هذه الأسماء اللامعة المفكر والأديب والحقوقي إبراهيم المنذر، وأديب مظهر، الذي يعتبر رائد الرمزية في الشعر العربي المعاصر، وغاستون شيخاني مؤسس الـ«شانسونيه» في لبنان.
وفي سجل بكفيا الكبرى عشرات الرسامين في طليعتهم السيدة جنيفياف الجميل، زوجة مؤسس الكتائب الراحل بيار الجميل وشقيقة موريس الجميل، وكانت أول امرأة تقود طائرة في الشرق الأوسط، يُشار أخيراً إلى أن شوارع المحيدثة تمت تسميتها بأسماء الكتّاب والفنانين والمبدعين من أبنائها في لبنان والمهجر.
إعداد: شانتال فخري