"معرض بيروت للتصميم".. إبداعات لبنانية نسجت حواراً بين التراثي والعصري
قطع فنية على شكل فطر فيلا عودة
في إطار «معرض بيروت للتصميم»، الذي أقيم في الفترة الممتدة من 23 إلى 26 مايو 2024، احتفت العاصمة اللبنانية بالابتكار اللبناني في مجال التصميم، وبتنوّعه، ومزجه بين الطابعين، التراثي والعصري، وحرصه على دمج الحِرفي بالصناعي، والقديم بالجديد.
يهدف المعرض بصفته متعدد التخصصات، إلى الاحتفال بالتصميم والإبداع، وتعزيزهما، من خلال برنامج غني يقدم أعمال المصممين، والتجهيزات الفنية، واللقاءات، وورش العمل، في مجالات عدّة تشمل تصميم المنتجات والحرف اليدوية، كما إشراك المواهب الإبداعية المحلية في موضوعات الحدث المتمثلة في التمكين، والحفظ، والاستدامة.
ووفق ما شرحت خبيرة العلاقات العامة، ماريانا وهبي، التي أطلقت هذه المبادرة، مع شريكها المصمم سامر الأمين، إن هذا الحدث يطال أهدافاً عدّة، أولها عرض أفضل التصاميم العربية، مع التركيز على التصميم اللبناني، والاحتفال بالتصميم والإبداع، وتعزيزهما من خلال برنامج متعدد التخصصات، وكذلك خلق حوار عالمي حول التصميم والاستدامة، وخلق شبكة تواصل، ونظام بيئي يفيد جميع المشاركين الذين فاق عددهم المئة والخمسين، من مصممين، وحرفيين، وطلاب.
وأوضحت وهبي أن المعرض يُبرِز تنوّع الابتكار في مجال التصميم في لبنان، رغم كل ما مرّ به البلد من ظروف صعبة، وأن التصاميم المعروضة «عالمية المستوى»، وتشمل الحِرف اليدوية، وقطاع التصميم.
اللافت في هذا الحدث الذي كان موعده مقرراً في أكتوبر، من العام الماضي، وتأجل بسبب الأوضاع الأمنية، أنه يتحدى الصّعاب، ويقام في أماكن عدّة في المدينة، ويضم معارض عدّة، «ثلاثة منها رئيسية»، بحسب وهبي، وهي التمكين، والحفظ، والاستدامة، ومعارض أخرى حضنتها مواقع لم يسبق لها أن شهدت أيّ نشاط من هذا النوع.
للحِرفيين جانب من معرض التصميم
مواهب في التصميم وحِرف مهدّدة بالزوال
موقع الحدث الرئيسي أقيم في «بي إس لاب»، الذي كان في السابق موطناً لإحدى شركات الإضاءة المشهورة عالمياً في لبنان، حتى انفجار المرفأ في أغسطس 2020.. هدف اختيار الموقع إلى عرض الروائع الحرفية التي تعود لقرون، وسلط الضوء على المواهب التصميمية الحرفية المذهلة، ووفّر لها منافذ جديدة، وشبكات للشراكات والتعبير الإبداعي.
في هذا الموقع كان هناك العديد من العروض المؤقتة، والتركيبات التي استمتع بها الضيوف من قبل بعض أفضل العلامات التجارية الحِرفية اللبنانية، وعُرض تصميم الأثاث الفريد من قِبل «كولّكتيف»، لريا يونس، إضافة إلى معرض تصويري بعنوان «رؤية من بيروت» للمهندس المعماري البارز كريم نادر، مع المصور البلجيكي جوليان لانو..
كما احتضن «بي إس لاب»، ويقع قبالة مرفأ بيروت، حِرفيين عانوا خلال الأعوام الأخيرة، وخسروا أعمالهم لأنّ عدداً من المصمّمين الذين كانوا يتعاملون معهم تركوا لبنان، علماً بأن هذه الحِرف مهدّدة أصلاً بالزوال، والحرفيون غيورون عليها، ويسعون لإحيائها بكل السبل المتاحة.
عن ذلك تقول المصممة فاطمة طرطوسي، وهي تحفر عبارة «إن القناعة كنز لا يفنى» على إناء نحاسي، إنها ورثت الحرفة عن والدها، ومنذ بلغت التاسعة من عمرها تفرغت لحرفة النقش على النحاس، حيث وجدت شغفها، وتضيف «عندما أنتهي من الحفر أشعر بسعادة أني استطعت أن أنجز شيئاً جميلاً، وأحافظ على حرفة قديمة يجب أن تحيا».
بلاط بتقنية التنقيط
ويقول المصمم كريم شعيا من مجموعة «بلاط شعيا»، وهي المؤسسة التي تصنع البلاط الأسمنتي الملوّن بطريقة يدوية، إنه تعاون مع الفنان غوان لي، من بريطانيا، والمهندس ستيوارت برسي، ليطلق مجموعة «دولوب»، واعتمد فيها تقنية التنقيط ومن خلالها يحافظ على النقوش القديمة في أرضيات البيوت العربية التقليدية، ساعياً في الوقت نفسه إلى تطويرها، واعتمادها أسلوباً فريداً.
ديما اسطفان وأثاث من مشغولاتها
من جهتها، تصنع المصمّمة الداخلية، ديما اسطفان، الأثاث من الخيزران الذي تصفه بأنه «مادة نبيلة»، وتقيم ورشاً تدريبية حوله، وتقول إنها لا تكتفي بصنع قطع المفروشات، والزينة، والسلال، من الخيزران القديم، بل تبتكر أساليب جديدة، وهي تستوحي أعمالها من المادة التقليدية لتحافظ على القديم، لكنها تعتمد تصاميم عصرية، وتحرص على تقديم لمسَتها الخاصة.
مشغولات ايلي عيروت
أما النجار ايلي عيروت، فينكبّ على عمله، وهو يحمل مجموعة من الأزاميل ليحفر على الخشب تيجاناً مزخرفة بطريقة غاية في الاحتراف، والإبداع، وهو رغم تقدمه في السّن، لا يترك مهنته، ويجتهد لتعميمها، وتوريثها للأجيال القادمة، مؤكداً أن الآلات الحديثة لا تعطي الأثاث نفس جمالية العمل اليدوي.. وهناك أيضاً الحِرفي حسام حمامي، الذي ينحت على الخشب صورة طير الكرك، وهو من الطيور المهاجرة المهدّدة بالانقراض، رغبة منه في «تخليد ذكراه».
ويليام وهبي وجوي مارديني
معرض «أصداء الماضي».. 33 مبدعاً لبنانياً في مجال التصميم
وعن معرض «أصداء الماضي رحلة عبر تصميم المنتجات في الشرق الأوسط»، الذي أقيم في فيلا عودة، بتنسيق من «بابيلون»، الوكالة التي أسّسها ويليام وهبي، بالشراكة مع جوي مارديني لقطع الأثاث والأدوات الاستخدامية، يقول وهبي بصفته قيّم المعرض، إن «الهدف من إقامة المعرض هو تسليط الضوء على الإبداع اللبناني، في مجال التصميم خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وإعادة استقطاب المصممين اللبنانيين الذين هاجروا، وتشجيعهم على العرض في بلدهم».
وأضاف أن «فيلا عودة التي تحتضن المعرض لم تكن في العادة مفتوحة للعامة، وهي في الأصل متحف للموزاييك، وموقع مهم في قلب العاصمة بيروت، وكان الهدف من اختيار المكان المذكور هو الترويج للمصمّمين المشاركين في مكان تراثي عتيق».
وجمع متحف «فيلا عودة» للفسيفساء في العاصمة اللبنانية أعمال 33 مصمماً للمنتجات الإقليمية للأثاث، وعن ذلك قال ويليام وهبي إن مشاركتهم «تعني تفعيل قطاع التصميم من جديد»، موضحاً «نحن نسعى إلى جعل بيروت مركزاً للتصميم ،والابتكار، والتفكير، وإيجاد الحلول الاقتصادية لقطاع التصميم، وأسبوع «التصميم في بيروت» الذي أقيم للمرة الأولى عام 2010، وغاب منذ 2019، غيّب معه المشهد الفني اللبناني، بعدما تأثر القطاع بالأزمات السياسية، والاقتصادية، والصحية، ونحن نسعى لتفعيل هذا القطاع لأن المصمم اللبناني لا يستوحي من إرث بلده فقط، بل يقاربه بطريقة عصرية مع التقنيات المستخدمة في الخارج، مواكباً الاتجاهات العالمية».
طاولة من تصميم طارق مقدم
وقال المصمم طارق مقدم إنه يعتمد في تصاميمه على صيغة التعامل مع حِرفيين لبنانيين، على الدوام، موضحاً أنه يبتكر في تصاميمه، وقد استوحى طاولة يعرضها في المعرض من قالب «معمول العيد والشوبك»، وهي أداة من أدوات المطبخ.
وعرضت رولا سلمون، مهندسة معمارية، ومصممة، قطع سجاد من تشكيلة ستراتا، صممتها لإيوان مكتبي، وهي مستوحاة من الطبيعة، وقالت إنها سافرت مع إيوان مكتبي إلى النيبال، وتعرفت إلى طريقة حياكة السجاد، وتأثرت بالمدينة، وطبيعتها، ورسمت لوحتها من السجاد المحاك يدوياً، بتدرجات الأخضر والأزرق، واستخدمت خيوطاً من الصوف والحرير.
اللافت في حديقة «فيلا عودة» هو انتشار مقاعد، وطاولات، وأعمدة للإضاءة، بأشكال نبتات فطر ملوّنة، وعند مدخل الطبقة الأولى من هذا المنزل العريق، الذي شُيّد في القرن التاسع عشر، يبرز تجهيز عملاق مغلّف بمرايا تعكس حركة الزوار، وجدران المكان، وإضاءته، وفيها أيضاً إبداعات جورج محاسب الذي استخدم إيحاءات الحجر بلمسات جميلة كمادة حيّة، فيما ركزت كارين شاكرجيان على الرّخام الخفيف والثقيل، في تصميمها المشارك.
ويُلاحَظ في الطبقتين المخصصتين للمعرض، من أدوار القصر الثلاثة، أن معظم المصممين اللبنانيين يستخدمون الرخام في تصاميمهم للطاولات، والمكاتب، ويمزجونه بالخشب، ويلوّنون السيراميك، ويمزجون أنواعاً من الخشب بطريقة عصرية وهندسية، ومن الابتكارات استخدام الألمنيوم لصناعة رفوف مكتبية.
طاولات فنية من تصميم ندى دبس
في مصنع «أبرويان».. تصاميم لطلاب 5 جامعات لبنانية
وفي مصنع أبرويان المهجور في الحي الأرمني، وهو معرض مشهور للنسيج، عرض طلاب خمس جامعات تركيباً عملاقاً مصنوعاً من البلاستيك المعاد تدويره على شكل انفجار بركاني.. وأقيم معرض جماعي تحت شعار الاستدامة، وفيه عرضت أعمال من تصميم الطلاب المقيمين في لبنان، بتنسيق من ثلاثة خبراء تصميم دوليين معروفين: فيديريكا سالا، آن-فرانس بيرثيلون، وفرانسوا لو بلان دي سيكيليا.
وبدأ المعرض كمركز تفكير للطلاب، ومركز تعليمي شجّع على التجريب والابتكار المستدام، وعرضت المواد مجموعة من المبتكرين الذين دعموا المواد المحلية مع منتجيها للترويج للاستخدام المستدام، كما عرض هذا المعرض التفاعلي الممارسات المبتكرة والمواد غير التقليدية على أمل إلهام الأجيال القادمة.
وإضافة إلى المعارض الرئيسية الثلاثة، شمل برنامج الحدث الكبير ثلاثة معارض في المدينة: «قصة معمل – استعراض» بواسطة إيوان مكتبي، «سيورلمانيا» بواسطة استوديو ندى دبس، وخليل خوري في مبنى «انترديزاين»..
واستقبلت دبس في الاستوديو الخاص بها معرضاً يعبّر عن أسلوبها الفني الذي يدمج بين التصميم والحِرف اليدوية الشرقية، ويقدّمها بصورة حيوية باتّباع النهج، وشعاره «مصنوع يدويّاً ومصنوع من القلب».. وفي مبنى «انترديزاين» عنوان «كل الأشياء يجب أن (لا) تمر» بواسطة برنارد وتيمور خوري لإحياء ذاكرة المعماري خليل خوري الذي استقطب اهتمام الزوار المتخصصين.
ومن الأماكن التي احتفت بالتصميم، معرض أقيم في بوتيك «إيوان مكتبي»، الكائن في منطقة الأشرفية ببيروت، وحوى مجموعة من السجاد معدّة بالتعاون مع مصمّمين محترفين، وفنانين، عرب وأجانب، علماً بأن «إيوان مكتبي» يدعم المصمّمين والمبدعين من تخصصات مختلفة، ويدعوهم لإنتاج تصاميم مستدامة، ومبتكرة، باستخدام التكنولوجيا، والمواد المبتكرة، مع الاستمرار في تصنيع كل قطعة باستخدام تقنيات صناعة السجاد التقليدية.
وكان من الواضح الحفاظ على تقاليد السجاد القديم، وتقديم الأخير في صور جديدة، من دون أن يكون هناك اتجاه محدّد في الألوان التي تنوعت بحسب كل تصميم، علماً بأن السجاد معدّ من الصوف، ونسبة قليلة من الحرير.
وتضمّن البرنامج معرضاً استعادياً عن المهندس المعماري الراحل خليل خوري، نظمه نجله المهندس الشهير برنار خوري، وحفيده، ويضم وثائق، وصوراً، ورسوماً، ونماذج معمارية، وأثاثاً من تصاميمه.
مضافاً إلى ذلك، فإن الاستوديوهات المفتوحة للمصممين المحليين والحِرفيين والمتاجر، التي فتحت أبوابها للزوار كجزء من البرنامج الذي استمر لمدة 4 أيام، وفّرت تجربة جديدة للضيوف، و لقاء أصيلاً مع عالم التصميم، ما أتاح لهم استكشاف العقول الإبداعية، والمعرفة، ووجهات نظر التصميم للموهوبين.
وفي الختام كان معرض التصميم بعنوان «نحن نصمم بيروت» مفتوحاً للجمهور، وحضره ضيوف تصميم دوليون، وصحفيون، ومنشورات تصميمية، الذين لم يشاركوا قصة الحدث فقط، بل تفاعلوا، وتواصلوا مع الآخرين لبدء إثراء النظام البيئي الحالي للتصميم في المنطقة، وخارجها.
وقد استقطب المعرض عدداً من الخبراء ومسؤولي المعارض، الإقليمية والعالمية.. وقال المستشار الفني لمعرض شانغهاي للتصميم مايك بروهن، إن المعرض البيروتي «رائع»، لامساً في التصاميم «طاقة قوية جداً من خلال استخدام المواد والألوان المتوسطية الدافئة»، ومضيفاً أن «للفنان اللبناني هوية تمتزج فيها الثقافة المتوسطية، بثقافة الشرق الأقصى».
أما الباحث البرتغالي في التاريخ، دافيد موريرا، فاسترعت انتباهه طاولة طويلة مصنوعة من لحجر الرملي، وأعجبته الكراسي الخشبية، ويقول «يذكرّني الخشب الخام والحجر الرملي بآثار المعابد الفينيقية، وهذا إنجاز كبير في ربط الماضي بالحاضر».