أرز لبنان.. ذخيرة الطبيعة والأكثر شهرة في العالم

تشجير سفح جبل المكمل، من إهدن إلى بشري وصولاً إلى تنورين، بمليوني شجرة أرز، حلم لم يعد مستحيلاً.. وباستكماله ستستعيد أعالي جبال لبنان صورة بهية من خضارها وجمالها الطبيعي الساحر عندما كانت غابات الأرز تكسوها من شمالها إلى جنوبها.

اليوم، لم يبق من هذا الخضار سوى مساحات محصورة في أعالي بشري وإهدن وتنورين مع محيطها وعكار والقموعة شمال لبنان، إضافة إلى جاج والباروك في أعالي جبل لبنان وسطاً وجنوباً.

الشموخ والاخضرار والصمود ومواجهة عوامل الطبيعة هي من صفات شجرة الأرز التي هي من أقدم الأشجار المعمرة في لبنان، إلى جانب السنديان والزيتون واللزاب، التي تنمو فوق الألفي متر، وقد باتت الأرزة رمز لبنان منذ القدم، ومع الاستقلال عام 1943 توسطت العلم اللبناني باخضرارها محاطة باللونين الأبيض والأحمر.

أرزة لامارتين

وقد ذُكر الأرز اللبناني عشرات المرات في الكتاب المقدس، وقال فيه الشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين: «إنه ذخائر الطبيعة والعهود والبنية الطبيعية الأكثر شهرة في العالم».. وكان لامارتين قد زار غابة الأرز الدهرية في بشري عام 1832، وقد خُلدت ذكراه بإطلاق تسمية أرزة لامارتين على الشجرة التي جلس قربها..

ويشار هنا إلى أن لجنة أصدقاء غابة الأرز في بشري كانت قد تلقت رسالة من كليمنت كورسيني (حفيد عائلة إيطالية) جاء فيها إن لامارتين كان صديقاً حميماً لأجداده فأهداهم منذ أكثر من 150 عاماً، واحدة من الغرستين اللتين أخذهما معه بعد زيارته غابة أرز بشري، وشملت هذه الهدية أيضاً بعضاً من البذور التي زرعتها العائلة في باحة قصرها في فلورنسا-إيطاليا.

وفي عام 1992 ضربت صاعقة 3 أرزات معمرة في غابة بشري، بينها أرزة لا مارتين، وحولتها إلى يباس، وعندها كلفت لجنة أصدقاء الغابة النحات رودي رحمة بنحت أرزة لامارتين من دون قطع أو اقتلاع، وبعد عمل شاق طيلة 6 سنوات أصبحت هذه الأرزة أشبه بتمثال، وأُطلق عليها اسم منحوتة الثالوث التي تتجسد فيها مراحل الحياة: الولادة، الطفولة والأمومة، الشيخوخة..

حيث تمكن رحمة من الجمع بين قوتين في الطبيعة: قوة الزمان وقوة المكان، وهذا ما أدخلها عام 2007 موسوعة غينيس كأكبر منحوتة خشبية في العالم ترتفع 39متراً، والجدير بالذكر أن منظمة اليونسكو وضعت عام 1998 غابة أرز بشري، مع وادي قنوبين التي تعتليه، على لائحة التراث العالمي.

وفي ما يتعلق بقصة الحلم بتحريج سفح جبل المكمل بأشجار الأرز، من إهدن إلى بشري وصولاً إلى تنورين، فتعود إلى مبادرة أطلقتها لجنة أصدقاء غابة الأرز في بشري منتصف ثمانينيات القرن الماضي فتحقق الكثير منها حتى اليوم..

وفي هذا الإطار، يلفت أحد مؤسسي هذه اللجنة ومطلقي هذه المبادرة، المؤرخ أنطوان جبرايل طوق، إلى أن الغابة الدهرية كانت وسط بيئة صحراوية جرداء، وهو ما كان ينعكس سلباً على بيئتها، ما استدعى الإسراع في إطلاق مشروع التحريج..

ويقول طوق لـ«كل الأسرة»: إن التحريج كان يحتاج إلى حوالي مليوني غرسة أرز نصفها في الجرود، الممتدة بين بشري وإهدن، والنصف الآخر في الجهة المقابلة الممتدة حتى حدث الجبة وتنورينن وبمساعدة من جهات محلية واغترابية ودولية غرس في محيط غابة الأرز الدهرية أكثر من 150 ألف شجرة، إضافة إلى العشرات منها في بقاع كفرا وبعض البلدات المحيطة في قضاء بشري.

الغابة الدهرية

الأرزة على مدخل الغابة الدهرية شبيهة بأرزة العلم اللبناني

وتنتشر أشجار الأرز حديثة العهد حول الغابة الدهرية على امتداد المنطقة السياحية، وعلى سفح مركز التزلج قرب المؤسسات السياحية والمواقع التي تمارس فيها مختلف أنواع الأنشطة والرياضات البيئية على مدار السنة، بينها الطيران الشراعي..

أما زيارة الغابة الدهرية فهي فرصة نادرة، حيث يتنقل المرء بين الأشجار الخالدة في طليعتها «أرزة الرب» التي يؤكد طوق أنها الأقدم في غابة بشري ولبنان، ويقدر عمرها بـ3000 سنة، إضافة إلى أرزات لامارتين و«الحبيس» و«النقد» و«الناطور» و«الحب»..

أما الأرزة التي تقف شامخة على الطريق العام، إلى جانب الغابة، فقد سمتها لجنة أصدقاء الغابة بـ«أرزة العلم» كونها شبيهة إلى حد بعيد جداً بالأرزة المرسومة على العلم اللبناني.

أما بشري، التي تحتوي غابة الأرز الأكبر، فيتراوح ارتفاعها بين 1400م عن سطح البحر و3000م عند تخوم القرنة السوداء، ولاسمها أكثر من تفسير بينها مكان الرطوبة والماء نظراً لأن جبل المكمل يحتوي على أكبر خزان للمياه الجوفية في لبنان والمنطقة..

وبشري كناية عن واحة طبيعية وتاريخية وأثرية وبيئية وتراثية ودينية، ولعل وادي قنوبين مثال حي عن كل ما سبق ذكره، وهو مقصد أساسي للسياحة لاسيما الدينية على مدار السنة، وإلى جانب الأرز..

دخلت بشري العالمية وعالم الخلود مع الفيلسوف جبران خليل جبران الذي أقيمت المئوية الأولى لكتابه «النبي» في نيويورك ربيع العام الماضي، والذي ينشط متحفه في نشر فكره من خلال المعارض والمؤتمرات واللقاءات في لبنان والعالم العربي وفي أصقاع الأرض.

متحف جبران خليل جبران

وكان صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، قد وهب في عام 2021 منحة قيّمة ومميزة لمتحف جبران خليل جبران مدتها 5 سنوات انطلق تطبيقها عام 2023 وهي ستمتد حتى نهاية عام 2027..

وجاءت هذه المنحة في اختتام المعرض الذي أقيم لجبران في متحف الحكمة في الشارقة نهاية عام 2021 بعنوان: إطلالة على الروح، ما شكل لفتة مميزة جداً حيال الفيلسوف اللبناني العالمي، وتجسيداً جديداً لمحبة الإمارات، دولة وشعباً، وتقديرها للعظماء الذين خرجوا من بلاد الأرز.

ويؤكد جوزيف جعجع (وهو مدير متحف جبران) أن هذه المنحة هي الأولى من نوعها لمتحف في لبنان، وقد أُطلقت عشية المئوية الأولى لكتاب «النبي»، الذي أقيمت له عام 2023 سلسلة من النشاطات والمؤتمرات على الأراضي اللبنانية وخارجها، وغاية المنحة هي دعم المتحف ومساعدته على تحسين أدائه ومواكبة الحداثة والتطور في المتاحف العالمية من خلال أرشفة محتوياته وكتبه وحماية لوحاته وتطويرها.

وكان متحف جبران قد أقام أول معرض له في عام 2015 في متحف الشارقة للفنون، ثم توالت مشاركاته ومحاضراته حتى عام 2020، سواء أكانت في أبوظبي أم في معرض الشارقة الدولي للكتاب، حتى كان المعرض الذي أقيم في بيت الحكمة، وصولاً إلى إقرار منحة لمتحف جبران الذي عرض مطلع الصيف الماضي، وللمرة الأولى، عشرات اللوحات لجبران إلى جانب الإعداد لخطوات ثقافية وفكرية جديدة ستُنفذ الواحدة تلو الأخرى.

ولا تكتمل الرحلة إلى بشري من دون زيارة الكنائس التاريخية ومن بينها كاتدرائية مار سابا التي تحتوي على زجاجية لبطريرك القدس صفرونيوس، حيث يؤكد أنطوان طوق «أن كل الوثائق التاريخية لدى الكنيسة تؤكد أن هذا البطريرك ولد في بشري، ونشأ في دمشق، ثم عين بطريركاً على القدس، من هنا عرف بصفرونيوس البشراوي».

إشارة أخيرة إلى مغارة قاديشا، الرابضة على جبل يشرف مباشرة على وادي قنوبين، وهي عبارة عن تحفة بيئية وجمالية وطبيعية يتم الوصول إليها عبر ممرات سهلة، وهي شبيهة بمغارة جعيتا، في وسط جبل لبنان، بقسميها العلوي والسفلي من حيث أنها تجمع بين المغارة المائية وتلك المكتنزة بالصواعد والنوازل.

إعداد: شانتال فخري