يظل عمل المرأة بمثابة صمام الأمان الذي تحقق من خلاله ذاتها واستقلالها المادي، إلا أن ذلك قد يؤدي إلى تغيير ترتيب الأولويات لديها، ليأتي تحقيق النجاح في العمل على حساب أمور أخرى مثل تأجيل فكرة الزواج، وهو ما يتسبب بإشكالية تضع الأم في حيرة من أمرها، بين تشجيع ابنتها على تحقيق ذاتها، وبين الرغبة في أن تكوّن أسرة، ليشب في أحيان كثيرة صراع بين الطرفين، إلا أن كثيراً من الآراء جاءت لتؤكد براءة ساحة العمل من ذلك، وتُرجع الأمر إلى البيئة المحيطة التي قد تجعل الفتاة خائفة من تحمل مسؤولية بيت جديد.
تأخر زواج الفتيات سببه الرئيسي هو البيئة المحيطة بالفتاة وخشيتها من أن تواجه نفس مصير الأم
المستشارة مريم إدريس موسى، قاضي تسوية منازعات بالمحكمة الدولية لتسوية المنازعات، تبين «معاناة بعض الأمهات من تأخر زواج بناتهن له أسباب أساسية منها البيت، والعمل وشروطه في بعض الأماكن، أما بالنسبة لي فأرى أن السبب الرئيسي هو البيئة المحيطة بالفتاة وخشيتها من أن تواجه نفس مصير الأم إذا ما كانت تعاني معاملة قاسية من جانب الأب أو العكس، وأحياناً قد يكون السبب عدم تحملها فكرة المسؤولية والخروج من منزل الأهل إلى آخر لديه مشاكله وهمومه، فتخشى العبء النفسي والجسدي الذي يمكن أن يقع عليها. أما مسألة عزوف الفتاة عن الزواج لأسباب تتعلق بعدم اقتناعها بالفكرة أو لغياب المواصفات التي تريدها في مَن ترتبط به، فهنا يجب على الأهل شرح المعلومة الصحيحة عن الزواج، وأنه عبارة عن مؤسسة شرعها الله عز وجل لعمارة الأرض، ولم يربطها بمواصفات معينة وإنما بشروط وأحكام وضوابط شرعية».
وتضيف «هناك سبب آخر، إذ يظن الأهل أن عمل الفتاة الذي يشعرها بقيمتها وقدرتها على تحمل مسؤولية نفسها مادياً يجعلها تعزف عن الزواج، وهو ما يتحتم عليهم أن ينصحوها بأن شريك الحياة صمام أمان يخفف عنها متاعب العمل والإرهاق الذي تتكبده، وأن خروجها من بيتها ما هو إلا مطلب أساسي لمواجهة متطلبات الحياة وأعبائها، وعليها الموازنة بين ذلك وبين مسؤولية بيتها وأسرتها».
على كل أم أن تدرك حقيقة أنها هي المسؤولة عن حماية ابنتها من أن تفقد الثقة بنفسها وإمكانياتها، وألا تشعرها بالضياع لمجرد أنها لم تتزوج
عندما يقصر الرجل في القيام بتلبية احتياجات الأسرة والزوجة، يتسبب ذلك في إحجام البعض عن الارتباط تجنباً للوصول إلى مثل تلك النتيجة
الدكتورة رقية حسين محمد، مستشارة تربوية وأسرية، تؤكد «تعد الأسرة أساس المجتمع، فمنها يبدأ وعليها يعتمد، وبقدر ما تكون متماسكة يكون المجتمع قوياً ومترابطاً، وهذا الأساس يتكون عن طريق الزواج الذي يشبع الحاجات النفسية والجسدية والاجتماعية للأفراد ويوفر لهم الهدوء والاستقرار، ولكن هل أصبح الزواج في أيامنا مشكلة تعجز عن حلها المعادلات الحسابية، لتشكل في النهاية ظاهرة تسمى «العنوسة».
ومن وجهة نظري لا يمكننا بتاتاً، تصديق مقولة أن هناك من يعزفن عن الزواج، لأن مثل هذه العبارات تخالف الطبيعة البشرية التي خلقها الله ووضعها فينا نحن البشر، فالمشكلة تبدأ عندما تصل الفتاة إلى سن الزواج وتجد أمامها نماذج من ارتباطات تعاني فيها بعضاً من أنواع الإساءة والتسلط والتقاعس عن أداء الواجبات من قبل الزوج تجاه أسرته وبيته، وتبدأ الفتاة في عقد مقارنة بسيطة بين بيت الأب المملوء بالحب والدلال والراحة والسكون والتقدير والألفة، وبين الذهاب لمصير مجهول مع شخص مختلف الطباع؛ إذ تخشى في هذه الحالة على نفسها من أن يكون مصيرها مثل إحدى قريباتها أو صديقاتها التي تعاني بعد الزواج. فمثلاً عندما يقصر الرجل في القيام بتلبية احتياجات الأسرة والزوجة، يتسبب ذلك في إحجام البعض عن الارتباط تجنباً للوصول إلى مثل تلك النتيجة، وأحياناً قد تعاني هي في بيت أهلها وهو ما ينعكس عليها سلباً.
وأتذكر قصة مرت بحياتي خلال دراستي الجامعية، وكانت لصديقة ثرية دفعتها الظروف لأن تضطر للانتظار لساعات طويلة في الجامعة لتجد حاسوباً فارغاً تستخدمه لأداء واجباتها وبحوثها وأعمالها، لأن والدها لا يريد شراء جهاز لها كي لا تفسد أخلاقها، دون مراعاة لوقع هذا السلوك وتأثيره فيها من الناحية النفسية».
وتضيف «كل هذه الأسباب وغيرها الكثير جعلت الفتيات أكثر حرصاً على الاهتمام بالدرجة الأولى بالبحث عن الوظيفة وتكريس حياتهن من أجل نيل شرف الحصول عليها، ولا يعني ذلك الاستغناء عن فكرة الزوج؛ بل من أجل مواجهة أي مشكلة قد يتسبب بها شريك الحياة وتؤدي إلى دمار الأسرة مستقبلاً بسبب الماديات. والدليل على ذلك أنه عندما تقابل الفتاة مَن تجد فيه الصفات التي تشعرها بالتوافق والاستقرار والتكافؤ ونجاح الأسرة، قطعاً لا الوظيفة ولا غيرها سيقف عائقاً أو يكون سبباً في تأخر زواجها؛ بل تقبل على الارتباط بخطى ثابتة».