وأنا أهمّ بكتابة هذا المقال، تذكرت أنه سبق لي أن تناولت مسألة المديح في مقالات سابقة، فقلتُ لنفسي: لماذا لا أعود إليها، كي أتحاشى تكرار ما قلته، فوضعت كلمة «المديح» في خانة البحث في ملف يحوي مجموعة من مقالاتي القديمة، فهالني عدد المرات التي وردت فيها كلمة المديح في عناوين مقالات سابقة لي، سأورد هنا بعضها فقط وليس كلها: «مديح الابتسامة»، «مديح القلب»، «مديح النسيان»، «مديح العزلة»، «مديح البطء»، «مديح المسافة»، «مديح السماء»، «مديح البشرة السمراء»، وفي تناص مع قصيدة محمود درويش الشهيرة: «مديح الظل العالي»، وجدت مقالاً لي عنوانه «مديح الظل غير العالي».
ومن بين المقالات التي تناولت فيها المديح، مقال عنوانه «المديح المدمر»، وفيه رأيت أنه ليس اعتباطاً أن أحد أغراض الشعر العربي القديم كان المديح. كأن ذلك يدلل على ميل متأصلٍ في النفس العربية، وفي النفس البشرية عامة، إلى كيل المديح للآخرين، لمن نظنهم يستحقونه، وفي أحيان كثيرة لمن لا يستحقونه إذا كان وراء هذا المديح مآرب شخصية. وليس في الأمر مفارقة أن يتنقل الشاعر المادح إلى شاعر هجَّاء إذا ما خاب ظنه في الشخص الممدوح، أو لم ينل ما ظنه جديراً به من حظوة ومكارم لقاء ما أفصح عنه من مديح.
لكن ما أنا بصدده هنا ليس المديح لحالات، كالعزلة والبطء والمسافة والنسيان، وغيرها مما أتيت على ذكره، وإنما هو المديح الذي نوجهه، أو بالأحرى، يجب أن نوجهه للأشخاص الذين تشدّنا إليهم أواصر عاطفة ومحبة، والحق أن الشاعر العربي القديم حين يكون صادقاً في عاطفته إزاء من يمدح فإنه يجترح من الإبداع الكثير، بدليل أن الكثير من النصوص الشعرية للمتنبي وأبي فراس الحمداني في المديح ما زالت حتى اليوم نصوصاً خالدة.
ما يهمنا ليس ذلك المديح الوارد في الشعر لشخصيات أو رموز، وإنما المديح العفوي الذي لا تلزمه أوزان الشعر وقوافيه وتفعيلاته وبلاغته، وإنما ذاك الذي يأتي على هيئة جمل مختصرة، لكنها معبرة ومؤثرة من قبيل أن تقول لمن تحب: «أنا فخور بك»، أو «أنا سعيد بوجودك في حياتي»، وما شابهها هي إشارات مهمة في «لغة الحب». فالحبيب أو الصديق بحاجة إلى مجاملات ومديح وتقدير لشخصه.
القول هنا ليس قولنا، وإنما هو لعالم نفس وخبير علاقات أمريكي اسمه غاري تشابمان، وجاء في سياق تناوله لأساليب الاتصال في العلاقات العاطفية الشخصية لدى البشر، وخلص إلى أن هذا النوع من المديح هو أحد أهم الوسائل لتقوية وتوطيد المشاعر بين المحبين، فلا يكفي أن تكون النفوس حاملة لها، وإنما من الضروري إيصالها لمن نكن له إياها.