بقدر ما كانت موهوبة بقدر ما أثارت حياتها الفضول بسبب علاقاتها المريبة وسعيها لخدمة مصالحها مهما كان الثمن. لكن الفرنسيين غفروا للمصممة الشهيرة أنها أقامت خلال سنوات الاحتلال الألماني لفرنسا في جناح بفندق «ريتز» الفخم في باريس على نفقة ثري نازي. والدليل على الغفران هذا المعرض الشامل الذي يستضيفه متحف الموضة لإحياء ذكرى جابرييل شانيل، المرأة التي بقيت تحمل لقب «آنسة» حتى وفاتها في الفندق نفسه عن 87 عاماً.
«جابرييل شانيل بيان الموضة». هذا هو عنوان المعرض المقام لتكريمها والذي فتح أبوابه في باريس لزوار يرتدون الكمامات ويحفظون مسافة مترين بين الواحد والآخر. وبيان، أو «مانيفستو»، هي لفظة تستخدم في العادة للبيانات الحزبية والسياسية. لكن شانيل كانت تشكل لوحدها حزباً كامل الأركان. فهي المرأة الضئيلة القد، العملاقة الشخصية، التي يعود لها الفضل في الترويج للموضة الباريسية في العالم، وكذلك للعطور الفرنسية. كانت السباقة في نشر هذه السمعة داخل أوروبا وخارجها. وفي حين كان كثيرون من قادة القرن العشرين يعتمدون على الطائرات والقنابل والجيوش لفرض سيطرتهم على هذا البلد أو ذاك، فإن «مدموازيل كوكو» بسطت نفوذها بعطر مميز شهير يحمل اسمها، بيعت منه ملايين القوارير خلال أكثر من نصف قرن، ولا تزال تباع حتى يومنا هذا.
إعلان لعطر" شانيل" نُشر عام 1937 ظهرت فيه جابرييل شانيل بنفسها لترويج العطر - تصوير: فرانسوا كولر - وزراة الثقافة الفرنسية
حررت المرأة من المشدّات التي كانت تضغط على خصرها وصدرها
كثيرة هي القصص التي حيكت حول شانيل. لكن هذا المعرض لا يتوقف عند الثرثرات والأقاويل بل يقدم مجموعة من إبداعات المرأة الجريئة التي عرفت كيف تبني لنفسها امبراطورية من النسيج واللآلئ البيضاء والأزرار الذهبية وتكسب بها عقول نساء زمانها. يقولون إنها قامت بثورة في عالم الجمال. لكن الحقيقة أنها قامت بثورة اجتماعية موازية حين أزاحت المشدات القاسية التي كانت الفرنسية ترتديها تحت ثيابها منذ العصور الوسطى. لقد حررت النساء من القيود الداخلية وتركت لهن راحة الحركة والجلوس والسير في ثياب تكشف رشاقة القوام دون أن تلتصق بالجسد. تاييرات ذات سترات قصيرة تعانق الخصر ولا تترهل أو تفسد المظهر.
منذ بدايتها، عرفت شانيل كيف تحفظ لنفسها موقعًا راسخًا في عالم تصميم الأزياء النسائية، وهو ما صار يُعرف لاحقًا بـ «الهوت كوتور» أو الخياطة الراقية. وبسبب شهرتها، فقد كثرت عنها الروايات التي ألهمت كبار كتّاب القرن العشرين فنشروا الكتب عن سيرتها وأخرجوا عنها الأفلام. ونظراً لكل تلك المنشورات يتصور المهتمون بالموضة أنهم صاروا يعرفون كل شيء عنها، بدءاً من الفستان الأسود القصير الذي جعلت منه قطعة أساسية في خزانة أي امرأة أنيقة، وانتهاء بالبدلة «التايير» المؤلفة من قطعتين من قماش التويد. مع هذا فإن هناك الكثير من الخفايا التي يكشف عنها هذا المعرض، حيث يمكن للزوار الوصول إلى خلاصة عملها وشخصيتها. وإذا كان للروائح خلاصة تسمى «روح العطر» فإن الفساتين والصور والحلي المعروضة في متحف الموضة تقود إلى «روح المدموازيل».
تاييرات شانيل الشهيرة
كرموها في مرسيليا ونيويورك وتأخرت باريس في الاحتفاء بشانيل
«كل الأسرة» تجولت في المتحف وتوقفت أمام 167 بدلة و183 حلية وقطعة أكسسوار. وإزاء كل هذا الإرث الإبداعي يخرج المشاهد بانطباع مفاده أن شانيل كانت مصممة مغبونة. فهي لم تنل التكريم الذي لقيه زملاء وزميلات لها من معاصريها، مثل مادلين فيونيه وكريستوبال بالنسياجا. ويستغرب الزائر حين يقرأ في الدليل أن هذا هو المعرض الأول الذي يقام لكوكو شانيل في العاصمة باريس، أي في المدينة التي عاشت واشتغلت وماتت فيها. وحين تبدي دهشتك أمام مديرة متحف الموضة ميرين أرزلوز فإنها لا تنكر التقصير وتقول إن معرضاً أقيم عنها في مرسيليا، جنوب فرنسا، أواخر الثمانينات، ومعرضاً كبيراً آخر في نيويورك. ولعل سبب تأخر باريس في الاحتفاء بالمدموازيل يعود إلى أن كارل لاجرفيلد، المصمم الذي تولى الإدارة الفنية للدار، كان لا يميل للمعارض التي تستعيد الماضي وقد اعترض على فكرة معرض عنها من هذا النوع، يجمع الفساتين القديمة ويضعها على علاقات الثياب في صالات جرداء. ثم أن الفرنسيين قد سمعوا وقرأوا عنها الكثير، جيلاً بعد جيل، بحيث ما عادوا محتاجين لمعرض يعيدها إلى الذاكرة. إنهم لم ينسوها أو يتناسوها، لقد تحولت إلى رمز أو أسطورة، والأساطير تبقى حاضرة ولا تنتظر التكريم. لكن هذا الرد يبدو أشبه بالتبرير غير المنطقي. والعارفون بالخفايا يؤكدون أن حجب الأنوار عن جابرييل شانيل يعود ربما إلى موقفها خلال الحرب العالمية الثانية، وهو موقف واقعي لكنه يفتقد الوطنية.
كانت المعروضات قد أخذت مكانها في قاعات المتحف حين انتشرت الجائحة وصدر قرار بإغلاق الأماكن العامة. وكان على المشرفين أن يجمعوا الفساتين والمجوهرات ويعيدوها إلى صناديقها. ثم تزحزحت الغمة قليلًا وأعيد فتح الصالات والمتاحف. وأعيد المعرض إلى مكانه باستثناء عدد من البدلات كانت ستأتي على سبيل الإعارة من مقتنيات متحف «متروبوليتان» في نيويورك، بسبب تقليص حركة الطيران. كما أن «كورونا» ستحرم الكثير من السياح الأجانب من رؤية معرض شانيل، على الرغم مما لها من شهرة عالمية تجتذب الجمهور الأوروبي والأمريكي والخليجي. لهذا السبب لم يكن المعرض مزدحمًا، ولا كان على الزائر الوقوف في الطابور لساعة أو أكثر في سبيل ابتياع تذكرة الدخول. فقد شعر الباريسيون أن متحف الموضة لهم وليس للسياح، واكتشفت الباريسيات أن أزياء «مدموازيل كوكو» كانت معاصرة بشكل لم تتوقعنه. أما عنوان المعرض: «بيان شانيل» فيشير إلى لحظتين فاصلتين من حياتها في المهنة، الأولى انفصالها عن الموضة التي كانت سائدة في عصرها. ففي أوائل القرن الماضي، وبالتحديد بين 1910 و1920، دافعت شانيل عن فكرة «الأناقة النسائية الجديدة» التي تقوم على المظهر الطبيعي والخفة في التصاميم. وهما صفتان لم تكونا حاضرتين في «الهوت كوتور» يومذاك. أما اللحظة الثانية فكانت في عام 1954، حين قدمت «التايير» النسائي الذي اختصر كل فلسفتها في التصميم منذ بداياتها.
خطفت قماش التويد الإنجليزي من الرجال وطوّعته ليناسب النساء
مرت 100 سنة على مفهوم «الأناقة الجديدة» لكنه ما زال يلهم العديد من المصممين المعاصرين، وخصوصاً المصممات من النساء. فقد كانت شانيل أول من تجرأ على اختطاف النساء من مظهر نبيلات القرن الثامن عشر وأعطتهن أناقة تليق بالقرن العشرين. وهذا لا يعني أن فساتينها وتاييراتها بسيطة وسهلة التقليد، بل يكمن السر في أنها رغم تفاصيلها المعقدة تمنح المرأة حرية في الحركة وانسيابية أخاذة. ولأن الأمريكيات كن أكثر ميلًا إلى البساطة من الفرنسيات، فقد لقيت تصاميم شانيل نجاحًا في الولايات المتحدة ووصفتها الصحافة بأنها رائدة «الموضة الشبابية».
حتى عام 1912 كان المصمم بول بواريه ملك الموضة في فرنسا بلا منازع. وقد اتسمت تصاميمه بالفخفخة والتطريزات الغنية التي تطبعها لمسات مستلهمة من الشرق. ثم جاءت تصاميم شانيل مضادة له وثورة على الأنوثة بمفهومها التقليدي. فهي قد استبدلت الموسلين والحرير مثلاً بقماش الجيرسيه الذي لم يكن يستعمل من قبل سوى في ملابس النوم والمنزل. أخرجته إلى النور من خلال سراويل بتصاميم مبتكرة تتسم بالراحة والانطلاق. كانت تلك السراويل تناسب نساء الطبقة المرفهة ممن يسافرن لقضاء الصيف على شواطئ بياريتز، غرب البلاد، أو يذهبن لحضور سباقات الخيل في دوفيل، على ساحل النورماندي الشمالي. سايرت شانيل الحركة النسوية التي كانت بوادرها قد بدأت في الأوساط الفنية المسرحية وغيرها، في بداية العشرينات من القرن الماضي. وقد انسحبت تلك البساطة حتى على فساتين السهرة، فهي قد لجأت إلى قماش الجيرسيه المطواع لكي ينسدل على قامات عارضاتها بشكل جذاب لا يحتاج لتفاصيل كثيرة. بل أنها عرفت كيف تستولي على قماش التويد الانجليزي الذي كان حكراً على البدلات الرجالية وقامت بتلويته وتمليسه ومنحه نفحة أنثوية راقية وجعلت منه أساساً للتاييرات ذات الجيوب الصغيرة على الصدر وفي جانبي السترة، وهي موضة لا يبالغ المرء إذا وصفها بأنها عابرة للزمن.
«مدموازيل كوكو» في بيتها في باريس عام 1965
بنت شانيل فلسفتها على أن المرأة المستقلة والحرة في تفكيرها تحتاج ثيابًا لا تعيق حرية حركتها وعملها. ولعلها استلهمت نفسها وحاجاتها في تقديم موضة تناسبها وتناسب النساء اللواتي من طينتها. ومع مرور السنوات ترسخت في الأذهان أن المرأة التي ترتدي تصاميم «المدموازيل» هي تلك التي تظهر شياكتها للأنظار من بعيد: التايير ذو النسيج الظاهر والقلائد ذات السلاسل واللآلئ الصناعية والحقيبة الصغيرة ذات المربعات المبطنة أو المُنَجّدة، مع الحذاء البسيط واطئ الكعب ذي اللونين.
كل هذه الفلسفة نراها مجسدة من خلال المعروضات التي تشغل مساحة 1500 متر مربع من المتحف، وهي ستبقى أمام الزوار حتى الربيع المقبل. وقبل أن تغادر المكان تتذكر ما جاء في دليل المعرض: «إن الموضة في القرن العشرين تنقسم إلى مرحلتين: قبل شانيل وبعدها