لماذا لا تصيب سهام السخرية سوى النساء، دون الرجال، من ذوي الأوزان الثقيلة؟ يستطيع البدين أن يتأبط ذراع حسناء بالغة الرشاقة بينما يهرب الرجال من الفتيات اللواتي تزيد مقاساتهن علة رقم الوسط. وهي ليست المرة الأولى التي تنطلق فيها صرخات تطالب بالحق في الاختلاف لكن الصرخة تأتي هذه المرة من باريس، عاصمة الرشاقة في العالم، ومن مغنية سوداء ذات صوت ساحر، تجاوز وزنها المئة.
اسمها غريب في الكتابة ويخطئ كثيرون في نطقه: إيزوت. وهي لم تكن مشهورة قبل سنوات قلائل بل لم تكن سمينة بالقدر الذي بلغته حالياً. ولعل ما لفت إليها الأنظار هو أن المصمم الشهير جان بول جوتييه اختارها للمشاركة في أحد عروض الأزياء التي قدمها في باريس. لقد تهادت أمام المصورين بجوار عارضات لهن قوام غصن البان. لكنها خطفت الكاميرا منهن جميعاً.
في عرض أزياء جان بول جوتييه
إيزوت تدافع عن حقها في الاختلاف
التتويج الحقيقي لإيزوت جاء مساء الجمعة 12 من شهر فبراير بحصولها على جائزة مرموقة في حفل التكريم السنوي الذي يجري تنظيمه في العاصمة الفرنسية تحت عنوان «انتصارات الموسيقى».
وهي قد حازت جائزة أفضل اكتشاف غنائي نسائي. وكالعادة صعدت إلى المسرح لتلقي الجائزة أمام صالة خلت من الحضور بسبب شروط التباعد الصحي، وكان عليها أن تلقي كلمة الشكر التقليدية للذين اختاروها لنيل الجائزة. لكن إيزوت انتهزت الفرصة وخرقت القواعد التقليدية وجعلت من كلمتها خطاباً تدافع فيه عن الحق في الاختلاف.
هل هي مختلفة لأنها داكنة البشرة؟ هذا ملمح لا يشكل في الوسط الفني سبباً للتجاهل أو الغبن أو الاستبعاد. إن أفضل المغنين والمغنيات في العالم هم من السود ذوي الأصول الإفريقية. هل هي مظلومة لأنها امرأة في مهنة يديرها المنتجون الرجال؟ وهذا أيضاً لم يعد سبباً لتجاهل موهبتها، لأن المنتجين يعيشون على أكتاف الفنانات ويحصلون على عائدات ضخمة ويجمعون الثروات بفضل استغلال مواهبهن، الفنية وغير الفنية. ما هو الاختلاف الذي تقصده إيزوت؟
إنها مختلفة لأنها بدينة. وقد تعارف الفرنسيون، من باب اللياقة، على تلافي صفة «سمينة» واستخدام صفة «ممتلئة» بدلاً منها. لكن بدانة هذه المغنية هي من النوع الذي يتجاوز المألوف. وإذا كانت بعض مطربات الأوبرا، أي «الديفا»، من البدينات فإن إيزوت البالغة من العمر 26 عاماً ليست من مؤديات هذا الفن النخبوي بل هي مطربة شبابية تغني ما يساير هذا العصر.
ماذا قالت في خطابها بمناسبة الدورة 36 من جوائز الموسيقى الفرنسية التي تكرّم الإنجازات السنوية؟
لقد أخذت وقتها وهي تتسلم الجائزة من أيدي عريفي الحفل، نجم التلفزيون ستيفان بيرن وملكة الجمال السابقة لوري تيلمان، ثم قالت «إن الطريق طويل بالنسبة لي كامرأة سوداء. امرأة سمينة يتجاهلها المجتمع وتنساها الثقافة». وأضافت «إن غضبنا شرعي وأود الليلة أن تسمع فرنسا كلها كلامي. وهذه الجائزة ليست فوزاً لي فحسب ولكنها تخص أشقائي وشقيقاتي. لقد مضينا لانتزاعها ونحن نستحقها».
لا أدري لماذا فوجئت الأوساط الإعلامية بهذا الكلام مع أن للمغنية مواقف سابقة ضد العنصرية. ولعل المفاجأة جاءت أيضاً من الثوب الذي ارتدته للمناسبة. فهي لا تخجل من جسدها. ويحدث أن تختار تنورات قصيرة أو سراويل ضيقة أو قمصاناً تكشف عن البطن، حالها حال غيرها من فنانات الاستعراض. هل عليها أن تتوارى وتدفن نفسها لأنها بدينة؟
لدي انطباع بأننا، نحن الذين ننتمي إلى الأقلية ونتعرض للعنصرية، ندين بشيء ما لفرنسا. ما هو هذا الذي ندين به؟
ابتكرت إيزوت مصطلح «جروسوفوبيا»، أي الخوف من البدناء والبدينات، على غرار «كلوستروفوبيا» و«إسلاموفوبيا» أي الخوف المرضي لدى البعض من الأماكن المغلقة، أو من المسلمين. وهي قد اشتهرت بأغنية تحمل عنوان «أجساد» التي أدتها في الحفل وزادت من جرعة التحدي حين ارتدت فستاناً أسود اللون ضيقاً وشفافاً.
وعلى الفور لاحظ المشاهدون أنها تحاول التشبه بالمغنية الأمريكية بيونسي في صورتها التي احتلت غلاف الطبعة البريطانية من مجلة «فوج»، آخر السنة الماضية، وهي ليست مجرد حركة إغراء بقدر ما هو إعلان لموقف معين. فإيزوت من الناشطين في حركة «الجسم الإيجابي»، ليست المرة الأولى التي تكشف فيها عن استدارات قوامها. وقد رافق الأداء ظهور عدة راقصات وراء المغنية، الأمر الذي عكس باقة من الأجساد والألوان المختلفة للبشرة، وهو اختيار يشكل أيضاً موقفاً ضد العنصرية.
صدمت الرأي العام حين أعلنت أنها ليست مدينة بشيء لفرنسا
سبق للمغنية أن ظهرت، مطلع الشهر الجاري، في برنامج تلفزيوني يقدمه النجم الجزائري الأصل مولود عاشور وأطلقت تصريحات شغلت مواقع التواصل وأثارت آلاف التعليقات، فهي قالت «لدي انطباع بأننا، نحن الذين ننتمي إلى الأقلية ونتعرض للعنصرية، ندين بشيء ما لفرنسا. ما هو هذا الذي ندين به؟ لا أحد يلاحظ ما تعلمناه من آبائنا، أي الكرامة والاحترام والعطف».
ولدت إيزوت أونجنيه في باريس لوالدين من أصل كاميروني، لكنها لم تعرف قسوة أحياء المهاجرين فقد كان والدها موظفاً رفيعاً في شركة «لاند روفر» للسيارات.
وهي قد نشأت في حي «بيرسي» جنوب العاصمة وتولعت بالموسيقى منذ طفولتها رغم أن أباها منعها من التقدم لمسابقات الموهوبين. ولكن كانت البنت تذهب للاختبارات من وراء ظهره، وقد واتاها الحظ حين اختيرت للغناء في فريق المنشدين الذي يصاحب إحدى الفرق. لكن الجمهور لم يتعرف إليها إلا عند اشتراكها في الموسم العاشر من برنامج «نجوم جدد» وبلوغها التصفيات النهائية.
وبعد شهر من عرض البرنامج دخلت الاستوديو لتسجل أولى أغنياتها. وفي صيف 2014 أصدرت أول أسطوانة لها وحملت أغنية واحدة هي «الموجة» وترافقت مع تسجيل «كليب» لها. ولما لم تحقق نجاحاً كبيراً فإنها أصيبت بالاكتئاب ثم تجاوزته وغيرت من نمطها في الغناء وابتكرت نوعاً موسيقياً سمته «إي تراب»، مستخدمة الحرف الأول من اسمها «Y».
كما راحت تكتب كلمات أغانيها وتضمنها معاني جريئة ومستفزة. وهكذا حققت أسطوانتها الثانية «ليس عندي ما أثبته» نجاحاً أفضل.
إلى جانب الغناء اشتغلت في عرض الأزياء وتعاونت مع شركة «ASOS» للثياب في لندن. فقد اختارتها الشركة لتكون العارضة الرسمية لحملتها الترويجية التي تنادي بالتنوع وتقبل الذات. وبعد تلك التجربة عادت بقوة إلى الغناء وأصدرت أغنية «أجساد» التي استلهمتها من حياتها الشخصية وحققت الأسطوانة رواجاً كبيراً وبيع منها 1.4 مليون نسخة.
هنا، لا يمكن أن نمر مرور الكرام بآلاف المقالات التي نشرتها الصحف وبالعديد من تنبيهات الأطباء بأن السمنة مرض. بل هي أم الأمراض نظراً لما تتسبب به من ارتفاع في الضغط وزيادة في معدلات الكوليسترول الضار واحتمالات الإصابة بالسكري، عدا الثقل على الظهر والركبتين. لكن إيزوت ما زالت في مقتبل الشباب، وهي لا تفكر بهذا النوع من الهموم، بل لم تتطرق إلى محاولات تخفيف وزنها. ويبدو أنها تراهن على مظهرها المختلف الذي جعلت منه نوعاً من علامة تجارية تتميز بها.