أكد عدد من كبار علماء الإسلام أن الاحتفاء بالأم ينبغي أن يكون «ثقافة عامة» في عالمنا الإسلامي، بحيث لا يقتصر هذا الاحتفاء على يوم معين بل يجب تكريم الأم والبر بها ورعايتها في كل وقت، سواء أكان هذا البر مصدره الأب أو الأبناء أو المجتمع كله، فالأم هي من حملت وأرضعت وربت وسهرت الليالي، تتحمل الأعباء والمسؤوليات تجاه أولادها، وعطاؤها لا يمكن أن تكافأ عليه بهدية رمزية في يوم من أيام العام، بل ينبغي أن تكافأ في كل وقت، وأن يحسن إليها الأبناء ويبرون بها طول أيام وشهور السنة.
سألنا العلماء عن قيمة البر بالوالدين عموماً وخاصة الأم وكيفية البر بها وفيما يلي خلاصة ما قالوه ونصحوا به:
للأم مكانة خاصة في منظور ديننا وفي كل الشرائع السماوية ويجب أن تنال ما تستحقه من بر وإحسان ومشاعر ود وتقدير واحترام»
في البداية يؤكد الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، أن البر بالأم يجب أن يستمر في كل وقت طوال العام، فعطاء الأم لأولادها لا يعادله عطاء ولا يمكن التعبير عنه بمكافأة مادية أو عينية مهما كان حجمها، فعطاء الأم يجسد أسمى معاني الحب والعطاء، والتضحية والوفاء، فهي المأمن في المُلمات، وحصن القلب في الفَزَعَات، وقد أعلى ربنا منزلتها فجعل الجنة عند قدميها، وكرر نبينا في برها الوصية، فقال «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك».. وعلى الأبناء أن يتباروا في رد الجميل لها والوفاء ببرها.
وعن سبب تحفظه على جعل يوم معين للاحتفاء بالأم، قال «أنا هنا بين أمرين أحلاهما مر: فإذا كان تخصيص يوم للأم يسعد الأمهات فهو يحزن الأيتام من البنين والبنات، ويحزن هؤلاء اللآتي حرمهن الله من نعمة الإنجاب، أو أنجبن ولم يكتب الله لأبنائهم البقاء، وهؤلاء كثر في كل مجتمع، وعلينا أن نحترم مشاعر هؤلاء.. لكني مع كل مشاعر ود واعتزاز وكل مظاهر بر وإحسان واعتراف بالفضل من جانب الأبناء تجاه آبائهم وأمهاتهم، وللأم مكانة خاصة في منظور ديننا وفي كل الشرائع السماوية ويجب أن تنال ما تستحقه من بر وإحسان ومشاعر ود وتقدير واحترام».
وأوضح شيخ الأزهر أن الاحتفاء بالأم في يوم معين لا ينبغي النظر إليه على أنه «بدعة» حسنة أو سيئة، فكل بر وإحسان بالوالدين يكافأ الله عليه أصحابه ويجزل لهم العطاء، لكن الأمر يتعلق بكسر خواطر اليتامى والذين حرموا من نعمة العطاء الإلهي في الأبناء أو اللاتي فقدن أولادهن تحت أية ظروف.
من مظاهر تكريم الأم في تعاليم ديننا «الاحتفاء بها وحسن برها والإحسان إليها» وليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة لذلك
د. علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر السابق ورئيس لجنة الشؤون الدينية بمجلس النواب المصري، لا يجد حرجاً شرعياً في تخصيص يوم معين لتكريم الأمهات، والتذكير بفضلهن، وحث الأبناء على البر بهن، ولا يعني هذا عدم الوفاء بحقها طوال العام.
ويضيف «لقد كرم الإسلام الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن نوعه أو جنسه أو لونه، لكنه أضاف إلى ذلك تكريماً آخر يتعلق بالوظائف التي أقامه الله فيه طبقاً للخصائص التي خلـقه الله عليها، فكان من ذلك تكريم الوالدين اللذين جعلهما الله تعالى سبباً في الوجود، وقرن شكرهما بشكره، فقال تعالى: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ»
وجعل القرآن الأمر بالإحسـان إليهما بعـد الأمـر بعبادته سبحانه وتعالى، فقال: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا».
والى جانب حفاوة القرآن بالأم، احتفى بها النبي صلى الله عليه وسلم وتكررت وصاياه الكريمة بها، فالأم أولى الناس بحسن الصحبة، وهي مقدمة على الأب في ذلك، ففي الحديث الصحيح أن رجلا جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قال: ثُم مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ».
ويوضح عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر أن العلاقة بين الولد وأمه،في نظر شرعنا الإسلامي، علاقة عضوية طبيعية، فلا تتوقف نسبته إليها على كونها أتت به من نكاح أو سفاح، بل هي أمه على كل حال، بخلاف الأبوة التي لا تثبت إلا من طريق شرعي.
ويقول «من مظاهر تكريم الأم في تعاليم ديننا «الاحتفاء بها وحسن برها والإحسان إليها» وليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة لذلك، يعبر فيها الأبناء عن برهم بأمهاتهم، فهذا أمر تنظيمي لا حرج فيه، ولا صلة له بمسألة البدعة التي يدندن حولها كثير من الناس، فإن البدعة المردودة هي ما أُحدث على خلاف الشرع، لقوله صلى الله عليه وسلم «من أحدث في أمرنا ما ليس منا فهو رد».. ومفهومه أن من أَحدث فيه ما هو منه فهو مقبول غير مردود، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم العرب على احتفالاتهم بذكرياتهم الوطنية، وانتصاراتهم القومية التي كانوا يتغنون فيها بمآثر قبائلهم وأيام انتصاراتهم.
الأمومة في الإسلام
ويوضح مفتي مصر السابق أن الأمومة عند المسلمين لها معناها الرفيع، ولها دلالتها الواضحة في تراثهم اللغوي، فالأم في اللغة العربية تطلق على الأصل، وعلى المسكن، وعلى الرئيس، وعلى خادم القوم الذي يلي طعامهم وخدمتهم، وهذا المعنى الأخير مروي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه،وهو من أهل اللغة، ولما كانت اللغة هي وعاء الفكر، فإن مردود هذه الكلمة عند المسلم ارتبط بذلك الإنسان الكريم الذي جعل الله فيه أصل تكوين المخلوق البشري، ثم وطّنه مسكنا له، ثم ألهمه سياسته وتربيته، وحبب إليه خدمته، والقيام على شؤونه.
فالأم في ذلك كله هي موضع الحنان والرحمة الذي يأوي إليه أبناؤها، وكما كان هذا المعنى واضحا في أصل الوضع اللغوي والاشتقاق من جذر الكلمة في اللغة، فإن موروثنا الثقافي يزيده نصاعة ووضوحا، وذلك في الاستعمال التركيبي لـ «صلة الرحم» حيث جعلت هذه الصفة العضوية في الأم رمزا للتواصل العائلي، إذ ليس أحد أحق وأولى بهذه النسبة من الأم التي يستمر بها معنى الحياة، وتتكون بها الأسرة، وتتجلى فيها معاني الرحمة.
الاحتفال بيوم الأم أمر جائز شرعا، لا مانع منه ولا حرج فيه، والفرح بمناسبات النصر وغيرها جائز كذلك
وعن الفرق بين الاحتفاء بالأم في ثقافتنا وثقافات الأمم الأخرى، يجيب د. جمعة «المعنى الرفيع للأمومة عندنا له مدلوله اللغوي والثقافي، ومكانته الدينية التي توضح مدى الهوة الواسعة والمفارقة البعيدة بيننا وبين الآخر، ففي المجتمعات غير الإسلامية ذابت قيمة الأسرة، وتفككت في واقعه أوصالُها، ولذلك أصبح الإنسان يلهث وراء هذه المناسبات ويتعطش إلى إقامتها ليستجدي بها شيئا من هذه المعاني المفقودة لديه، وصارت مثل هذه الأعياد أقرب عندهم إلى ما يمكن أن نسميه بـ«التسول العاطفي» من الأبناء الذين يُنَبَّهون فيها إلى ضرورة تذكر أمهاتهم بشيء من الهدايا الرمزية أثناء لهاثهم في تيار الحياة الذي ينظر أمامه ولا ينظر خلفه».
وينتهي د. جمعة الى تأييده الاحتفال بيوم الأم في مجتمعاتنا الإسلامية، موضحا «رغم الاختلاف والتباين بيننا وبين ثقافة الآخر التي أفرز واقعها مثل هذه المناسبات، إلا أن ذلك لا يشكل مانعا شرعيا من الاحتفال بها، بل نرى في المشاركة فيها نشرا لقيمة البر بالوالدين في عصر أصبح فيه العقوق ظاهرة تبعث على الأسى والأسف، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، حيث كان يحب محاسن الأخلاق ويمدحها من كل أحد حتى ولو كان على غير دينه. وعليه، فإن الاحتفال بيوم الأم أمر جائز شرعا، لا مانع منه ولا حرج فيه، والفرح بمناسبات النصر وغيرها جائز كذلك، والبدعة المردودة إنما هي ما أُحدث على خلاف الشرع، أما ما شهد الشرع لأصله فإنه لا يكون مردودًا، ولا إثم على فاعله».
كيف تبر أمك؟
وعن مضمون البر بالأم والإحسان إليها، يوضح الداعية الأزهري د. مبروك عطية «البر ليس بهدية رمزية أو حتى هدية ثمينة يقدمها الابن لأمه وهو لا يفعل ما يرضيها نفسيا، فبعض الأبناء يغضبون أمهاتهم كل يوم بتصرفات كلها عقوق وعدم اعتراف بالفضل، أو يترك زوجته تحرق دمها كل يوم ثم يأتي في يوم الأم ليقدم لها هدية.. لا أعتقد أن هذه الهدية في هذا اليوم قد ترضى الأم وتسعدها لأنها تتألم من داخلها بسبب سلوكيات الابن وزوجته».
ويضيف «ما أعظم أن يبر المسلم أمه بفعل ما يسعدها ويرضيها نفسيا، فالبر الحقيقي بالأم يكون بطاعتها في غير معصية الله، وتحقيق رغباتها المشروعة، وتجنب ما يسيء إليها، وإدخال السرور على قلبها. والطاعة تكون فيما شرعه الله، مما فيه منفعة لها، وليس فيه ضرر ظاهر على الابن، فإذا أمرته بشيء محرم كالسرقة أو الرشوة أو ترك الصلاة أو عدم صوم رمضان فلا تجب طاعتها، بل تحرم الطاعة، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وإلى جانب الطاعة في غير معصية الخالق عز وجل لا بد أن يكون الابن قريبا من أمه يرعاها على أفضل ما تكون الرعاية، ولذلك قال كثير من العلماء باستحباب سكن الابن مع والديه، أو بالقرب منهما لتقديم الرعاية لهما والاطمئنان عليهما باستمرار. ومن البر بالأم الإنفاق عليها إذا كانت في حاجة إلى المال ولا يوجد لديها ما يكفي لتعيش حياة كريمة بين الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام يعطي للآباء حق الأخذ من أموال أولادهم ما يكفيهم فيقول «إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا كسب أولادكم».
ومن البر بها أيضا الدعاء لها بالرحمة، وهذا الدعاء جعله الله في مقابل تربيتها له «وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا». وهكذا يكون الإحسان إلى الوالدين وخاصة الأم بكل الأعمال الطيبة والإنفاق عليها وطاعتها والسهر على رعايتها والدعاء لها بالرحمة واجباً دينياً على الابن أولاً، ورد الجميل للأم ثانياً، وحقاً من أبرز حقوق الأم ثالثاً».