هلّ علينا شهر رمضان المبارك هذا العام والعالم كله يعاني الغلاء في أسعار الغذاء، وتضرر كثير من غير القادرين من جراء ذلك في كافة بلاد العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي دفع علماء المسلمين في كل المجتمعات إلى مناشدة القادرين مادياً لمضاعفة عطائهم الخيري في رمضان.. فالمحنة التي يمر بها الفقراء ومحدودو الدخل تضاعفت، وموارد الرزق بالنسبة لكثير من الأسر لم تعد تفي باحتياجاتها الضرورية والتزاماتها المادية، لذا أصبح العطاء الإنساني واجباً على كل القادرين.
لذلك كان حوارنا مع العالم والفقيه الأزهري د. حسن الصغير، أستاذ الشريعة الإسلامية والأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر، ليوضح لنا قيمة العطاء الخيري في رمضان،؛ حيث يضم صوته إلى أصوات كبار علماء الإسلام في كل البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، ويناشد القادرين بمضاعفة العطاء الإنساني والخيري خلال هذا الشهر الفضيل، لينطلقوا منه إلى عطاء وافر يحقق (مجتمع الكفاية والكفالة) الذي حث عليه الإسلام، ورسم الطريق لتحقيقه على أرض الواقع.. وفيما يلي تفاصيل الحوار:
في البداية سألنا الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر: كيف ترى أحوال الفقراء ومحدودي الدخل في بلادنا الإسلامية في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البشرية الآن نتيجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والتي تلقى بظلال قاتمة على معيشة كثير من المسلمين في أرجاء المعمورة؟
الفقراء ومحدودي الدخل من المسلمين وغير المسلمين في العالم كله تأثروا بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، فالأمر لا يخص المسلمين وحدهم، ولذلك تعددت المناشدات في كل بلاد العالم للأثرياء ليضاعفوا عطاءهم الخيري لكفالة هؤلاء الذين يعجزون عن الوفاء باحتياجات أسرهم من الغذاء ومتطلبات الحياة الضرورية، وقرأنا وسمعنا عن مبادرات جيدة من كثير من الأثرياء في كل المجتمعات غير الإسلامية لصالح هؤلاء.
ونحن من جانبنا نذكر أثرياء المسلمين في كل مكان بأن عليهم واجبات دينية يجب الوفاء بها لكفالة الفقراء والعاجزين عن تدبير احتياجاتهم في بلادنا الإسلامية، وإلى جانب الواجب المالي الديني الذي يتمثل في الزكاة، وهي مورد يكفي حاجات المسلمين في كل المجتمعات لو تم التعامل معه بجدية واهتم كل مسلم بإخراج ما عليه من زكاة سواء أكانت مادية أو عينية.. وهناك ساحة كبيرة للعطاء الإنساني يجزل الله الأجر والثواب لكل من يتسابق فيها من أجل رفع المعاناة عن الفقراء ومحدودي الدخل.
في ظل ظروف الغلاء وشح الغذاء، لا بد من أن نذكر الناس بفضيلة التكافل بين الأغنياء والفقراء المحتاجين المعوزين من محدودي الدخل والعاطلين
ما أهمية وقيمة العطاء الإنساني والخيري الذي ينبغي أن يتدفق لرعاية غير القادرين في كل البلدان الإسلامية خلال شهر رمضان المبارك؟
من جوانب العبقرية في شريعة الإسلام أنها تحض على المسارعة في الخيرات وعمل الصالحات وترغب فيها في كل وقت وخاصة أوقات الأزمات، وهنا نجد تنوع سبل الحض والترغيب على نحو يكفل إعمار الزمان والمكان بالتسابق إلى فعل الخيرات الباقيات الصالحات، ويعد جانب «التكافل الاجتماعي المستدام» في الإسلام خصيصة من خصائصه، وسمة بارزة من أجلى سماته، فالزكاة في مصارفها الخاصة الثمانية، التي جماعها التكافل الاجتماعي بين المزكين وبين المصارف الشرعية ركن ركين من أركانه، والصدقات التطوعية والتبرعات الإحسانية، فضيلة عظيمة من جميل فضائله، ناهيك عن أبواب من النفقة الواجبة من غير الزكاة، كإغاثة ذوي الحاجة الملهوفين أصحاب الضرورات، وكأبواب أخرى من التكاليف الشرعية المالية بأسبابها، كالنذور والكفارات، كلها تصب في خانة التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء.
وفي سبيل تنشيط عملية التكافل الاجتماعي وديمومتها خص الإسلام بعض الأوقات على مدار العام بزيادة الفضل وعظيم الثواب على صالح الأعمال، لاسيما المسارعة في الصدقات وأعمال البر، ومن هذا القبيل شهر رمضان المعظم؛ حيث رغب الشرع في الإكثار من البذل والإنفاق فيه، بمضاعفة الثواب عليها أضعافاً مضاعفة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في رمضان، لكونه موسماً للخيرات ومضاعفة الثواب على الطاعات، ولكونه مع ذلك شهراً للصيام عن شهوات الدنيا، على نحو يحس فيه الغني بحاجة الفقراء المعوزين إلى ضروريات الحياة طوال العام، ففي الصحيح: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة». لذا ينشط الناس إلى المسارعة في الخيرات في رمضان أكثر من غيره، كما هو معهود ومعروف، حتى سمي رمضان شهر الخير والبركة.
وعلى الرغم من عدم المنازعة من حصول مزيد من الخيرات وأعمال البر والطاعات في رمضان من كل عام، لكونه واقعاً نعيشه، فإننا في عامنا هذا وفي ظل ظروف الغلاء وشح الغذاء، لا بد من أن نذكر الناس بفضيلة التكافل بين الأغنياء والفقراء المحتاجين المعوزين من محدودي الدخل والعاطلين وغيرهم من أرباب الحاجات، فقد خلفت الحرب الروسية الأوكرانية واقعاً معيشياً صعباً في شتى أرجاء المعمورة، لا سيما في الدول النامية الفقيرة؛ حيث تكثر فيه الحاجة والعوز وشظف العيش، الذي هو المسغبة التي وصف الله تعالى فضيلة كفالة ذوي الحاجة فيها بأنه اقتحام للعقبة في قوله تعالى «فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة».
لذلك نناشد أغنياء المسلمين الذين منّ الله عليهم بكرمه وفضله أن يضاعفوا العطاء لمواجهة حاجات الفقراء، ومساعدة هؤلاء الذين يعانون ضيق العيش في كل البلدان الإسلامية وسوف يضاعف الله لهم الأجر والثواب، ونحن في موسم من مواسم مضاعفة العطاء الإلهي، وهو شهر رمضان المبارك، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، وفي رمضان أضعاف أضعاف كل ذلك.
تخزين الغذاء في البيوت يؤدي حتماً إلى ارتفاع أسعاره في الأسواق، وتضرر بعض الناس وخاصة الفقراء ومحدودي الدخل من ذلك، فشح الطعام في الأسواق يترتب عليه أضرار للمجتمع كله، والقاعدة الشرعية تقول «لا ضرر ولا ضرار»
دفع ارتفاع أسعار الغذاء في معظم بلداننا الإسلامية بعض الأسر إلى تخزين كميات كبيرة من الطعام والشراب خوفاً من شحها أو ارتفاع أكثر في أسعارها.. ما موقف الإسلام من هذا السلوك؟
الله سبحانه وتعالى تكفل برزق عباده في كل الأوقات، وتحت كل الظروف، وأسعار الغذاء في العالم تخضع للعرض والطلب، وكلما شح الغذاء في الأسواق ارتفعت أسعاره، ومن هنا يأتي الحكم الشرعي، فكل ما يمثل ضرراً بالمجتمع يرفضه الإسلام، وقد تمتلك بعض الأسر المال الذي يمكنها من شراء كميات كبيرة من الغذاء.. فماذا تفعل الأسر ذات القدرة المادية المحدودة؟
إن تخزين الغذاء في البيوت يؤدي حتماً إلى ارتفاع أسعاره في الأسواق، وتضرر بعض الناس وخاصة الفقراء ومحدودي الدخل من ذلك، فشح الطعام في الأسواق يترتب عليه أضرار للمجتمع كله، والقاعدة الشرعية تقول «لا ضرر ولا ضرار».
وإذا حدث شح في الغذاء وكان ناجماً عن مسارعة الناس إلى تخزينها لخوفهم من ارتفاع أسعاره، فعلى أولي الأمر أن يقوموا بواجبهم في إيصال الضروريات إلى الفقراء والمساكين الذين لم يتمكنوا من الحصول على ما يحتاجون إليه من الغذاء أو الدواء لخلو الأسواق منها، أو لعدم وجدانهم لثمنها، أو لخوفهم من الخروج، فأولو الأمر هم الرعاة المسؤولون عن رعيتهم، لاسيما المعوزين من الفقراء والمساكين وعامة الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته...». وعلى الاقتصاديين وخبراء التغذية أن يقوموا بواجبهم في توعية الناس بضوابط الدخول والخروج والاختلاط لشراء الحاجات أو تخزينهم لها، حتى لا يحملهم الهلع على المسارعة في شراء الأغذية أوالأدوية بكميات كبيرة فتشح الأسواق وتحدث الأزمات.
أيضاً.. على أغنياء الناس ومقتدريهم الذين تسببوا بتوسعهم في الشراء أو في تخزينهم لما كان في الأسواق من الغذاء لمجرد الخوف من ارتفاع أسعاره أن يغيثوا ذوي الحاجة المهلوفين من العجزة والفقراء والمعوزين بما يكفيهم من كل ذلك وإلا أثموا بصنيعهم في الجمع والمنع.
وهنا لا ينبغي أن يخدع الإنسان نفسه ويختلق ضرورة وهمية ويفعل المحظور تحت ستار الضرورة، فمن يختلق لنفسه ضرورات ويفعل المحظورات لن يخدع إلا نفسه، فالله سبحانه وتعالى مطلع على السرائر و«يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور» كما أخبرنا في القرآن الكريم.
لا تجعلوا سعار المادة يحملكم على الخسة والدناءة والسقوط في دركات الفظاظة والقسوة والطمع والجشع
العاملون في الأسواق تسيطر على البعض منهم قيم مادية ويبحثون عن الربح أينما كان ويقولون هذه تجارة.. بم وجه الإسلام هنا؟
الشريعة الإسلامية لم تترك نشاطاً حياتياً للناس دون أن تضبطه بضوابط وأخلاقيات الإسلام، وقد ضبط الإسلام الأسواق بأخلاقيات راقية تحقق مصالح المنتج والتاجر والمستهلك. ومن جميل أدب الشرع الحكيم أن من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، وأن من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، وأن من يسر على معسر يسر الله عليه.. هذه هي وصايا رسولنا الكريم في الحياة كلها وخاصة في مجال التعامل المالي والتجارة في الأسواق.
إن من عمى البصائر، وموت الضمائر، أن يعمد الناس إلى استغلال حاجات الناس وكوارثهم وضوائقهم، وعلى هؤلاء أن يتذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
وأوقات الكوارث العصيبة مضمار للترابط والتراحم والتكافل وأصالة المعدن، وطيب العنصر، ونور الإيمان، فلا تجعلوا سعار المادة يحملكم على الخسة والدناءة والسقوط في دركات الفظاظة والقسوة والطمع والجشع. وفي حالة التغالي والاحتكار وفساد الأخلاق في الأسواق، فتعاليم الإسلام تلزم أولي الأمر في تلك الأحوال العصيبة أن يراقبوا الأسواق، وأن يضربوا على يد المستغلين من التجار، حتى لا تجتمع على الناس المصائب والآلام.. آلام الضيق والحرج برفع الأسعار والأزمات.
الإسلام يلزم كل إنسان أن ينفق على المباحات باعتدال ودون إسراف
في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، هل تجوز الاستدانة من البنوك للحفاظ على مستوى معيشة معين للشخص، أم ترشيد الإنفاق هو المطلوب شرعاً؟
المطلوب في كل الأحوال الاعتدال في الإنفاق، والله سبحانه وتعالى يأمرنا بذلك في قوله سبحانه «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين»، وليس معنى أن الله أنعم عليك بفضله وكرمه ووسع رزقك من حيث لا تحتسب، أن تنفق كيفما تشاء. الإسلام يلزم كل إنسان أن ينفق على المباحات باعتدال ودون إسراف، والنصوص القرآنية والوصايا النبوية في ذلك كثيرة ومتنوعة.
أما فيما يخص (المداينة)، أي الاقتراض، فهو مرهون حكمها الشرعي بقدر الحاجة إليها، فهي مشروعة لمن هو في حاجة ملحة، أي إذا كان الإنسان لا يملك ما يستطيع أن يقضي به حاجته، وأصل المشروعية مشروط بقدرة المدين على السداد، وهذا يحصل بالمداينة في حدود ما يمكن المدين قضاؤه، والإسلام يحذر من دخول الإنسان في مداينة لا طاقة له بسدادها، أو توسع في المداينات حتى تتضخم ديونه مع أنه لا قبل له بالوفاء بها، وهنا يأتي التحذير من خيانة الأمانة، والمماطلة والتسويف، وأكل أموال الناس بالباطل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله».
لقد نبه الشرع الحكيم إلى كراهة المداينة بغير حاجة، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال»، وكان من دعائه أيضاً صلى الله عليه وسلم «اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم».. وعلى الجميع أن يعلم أن الشراء بالأجل مداينة ولا يجوز أن يلجأ إليه الإنسان إلا إذا كان في حاجة فعلية له.
والحل الناجع لتلك المشكلة يتمثل في نشر الوعي الاستهلاكي بعدم الإسراف والتبذير وعدم التوسع في المداينات مع توثيق القروض والديون بوثائق عينية أو شخصية تكفل التزام المدين وإلزامه بالسداد في الميعاد المحدد، وإلا كانت القروض الحسنة مثاراً للمماطلات والخيانات.