يعتبر شهر رمضان من الأشهر المباركة للمسلمين فهم حقاً ينتظرونه من العام إلى العام التالي لتحل فيه البركات ويعم فيه الخير والطمأنينة والتكافل بين الجميع، لكن في الوقت نفسه يقل فيه العمل وتزيد فيه بعض العادات غير المرغوبة حتى أنه أصبح مرتبطاً لدى الكثيرين بالإسراف في كل شيء بدءاً من تزيين المنازل ثم التخزينات المتعلقة بالطعام والشراب وكذلك تجديد أدوات المطبخ والمائدة وشراء الأجهزة المنزلية الجديدة.
كما أن تأثير رمضان لا يتوقف عند هذا الحد؛ حيث يليه عيد الفطر وهو أيضاً يستنزف الكثير من ميزانيات الأسر ما بين استعدادات وهدايا وشراء الملابس الجديدة والتحضير للتنزه والسفريات.
فقد توصل العديد من الدراسات خلال السنوات الخمس الأخيرة في عدد من الدول العربية إلى التأثير الكبير لشهر رمضان على سلوك المستهلكين؛ حيث يتضاعف الاتجاه نحو شراء كميات كبيرة من الطعام والشراب بنسبة تصل إلى 50 % عن الأيام العادية، ويزداد الطلب خاصة على اللحوم والدواجن، إضافة إلى الخضار والفواكه ومنتجات الألبان التي يتم شراؤها بكميات كبيرة فائضة عن الحاجة، حتى أن بعض هذه الدراسات حددت الأمر في أن ما يقرب من خمس الطعام الذي يتم شراؤه خلال شهر رمضان يتم إلقاؤه في سلة النفايات.
وترجع بعضها الأمر إلى كثرة العزائم والتجمعات الأسرية والتي أصبحت من التقاليد المرتبطة بشهر رمضان منذ القدم؛ حيث يشتري الناس كميات أكثر من احتياجاتهم على الرغم من قلة الكميات التي يتم استهلاكها. كما يحدث أن بعض الأسر تسعى إلى تقديم ما لذ وطاب من أفضل أنواع الطعام على سبيل الكرم والترحاب من ناحية الهوس بالتباهي و«الفشخرة» من ناحية أخرى.
سألت «كل الأسرة» عدداً من خبراء الطب النفسي والعلاقات الأسرية حول العادات الرمضانية من الإسراف والتبذير وعلاقتها بالتأثير النفسي للصيام في الأسر، وكيف تتخلص الأسر العربية من عادات الإسراف والتبذير التي أصبحت مرتبطة بالشهر الفضيل أكثر من الروحانيات نفسها:
على كل أب وأم أن يمنحوا أبناءهم قدراً من الثقافة الإيجابية لمواجهة الإسراف والكف عن التقليد، كما ينبغي على كل أسرة أن تضع لنفسها جداول وبرامج محددة تسير وفقها خلال أيام الشهر الفضيل
في البداية يؤكد الدكتور أحمد البحيري، أستاذ الطب النفسي وتعديل السلوك، أن هناك الكثير من الأسر يزداد إقبالها على الطعام والشراب في هذا الشهر الفضيل أكثر من بقية الشهور لدرجة الإسراف والتبذير، ويبالغ الناس في شراء احتياجات رمضان وكأننا مقبلون على مجاعة.
ويرى الخبير النفسي، أن الزوجة هي المسؤول الأول والأخير عن هذه العادة المذمومة في رمضان، ولعل هذا هو السبب في الكثير من الخلافات التي تنشأ بين الزوجين قبل وأثناء هذه الفترة من كل عام، فالزوجة تنساق وراء الإعلانات الترويجية وتدخل في سباق مع صديقاتها وقريباتها للتباهي بما لديها وما تقدمه لضيوفها وأسرتها خلال الشهر الكريم، مضيفاً «في رأيي أن ربة الأسرة هي الوحيدة القادرة على ضبط عمليات الشراء وإقناع الزوج بعدم التبذير، ولذلك ينبغي على كل أب وأم أن يمنحوا أبناءهم قدراً من الثقافة الإيجابية لمواجهة الإسراف والكف عن التقليد، كما ينبغي على كل أسرة أن تضع لنفسها جداول وبرامج محددة تسير وفقها خلال أيام الشهر الفضيل وخلال العيد تجنباً للمغالاة والإسراف في أمور كثيرة».
وينصح الدكتور البحيري الزوجات ألاّ يسعين للإكثار من إعداد الأصناف الغذائية التي تفرش قبل الآذان على مائدة الإفطار ولا تؤكل، «يجب على المرأة أن تكون على قدر المسؤولية وألاّ تظل أسيرة الإسراف طالما أنها قادرة على ضبط سلوك الأسرة الغذائي خلال شهر رمضان وأن تعلمهم أن الصوم هو امتناع عن الملذات وليس استعداداً لكل ما لذ وطاب وبكميات مضاعفة».
أنصح السيدات اللاتي يعانين الإسراف المزمن بعدم التسوق خلال فترة الجوع أو الصيام لأنها قد تشتري الكثير من الأصناف التي لا تحتاج إليها
أما الدكتورة أميرة الساعي، استشارية الصحة النفسية والعلاقات الزوجية بالقاهرة، فترى أن الأرقام التي تم رصدها في مدى الإسراف والبذخ الذي أصبح مرتبطاً بشهر رمضان حقيقية وواقعية جداً للأسف وما خفي كان أعظم، وبالفعل تظل المتهم الأول بالإسراف دائماً هي المرأة لأنها بطبيعتها تميل إلى شراء ما تحتاج إليه وما لا تحتاج إليه، والزوجة التي تحب وتعشق التسوق والخروجات والشراء خاصة في مجتمعاتنا العربية وكذلك تحب التباهي والتفاخر يزيد معها الأمر سوءاً في شهر رمضان.
وترى الدكتورة أميرة الساعي، أن الحل الوحيد مع هذا النوع من السيدات هو وضع ميزانية محددة تلبي طلباتها ضمن المعقول في شهر رمضان بعيداً عن مظاهر الإسراف. كما تشير الاستشارية النفسية إلى أن سلوك الإسراف والبذخ المبالغ فيه يدل على عدم نضج الشخصية.
وعن أسباب تنامي ظاهرة الإسراف لدى النساء، تقول استشاري العلاقات الأسرية إن بعض النساء بطبعهن لديهن هواية التسوق، فعند دخول إحداهن أي متجر أو سوبر ماركت تظل تشتري وتضع في العربة الخاصة بالشراء كل شيء يعجبها بغض النظر عن استخدامه وإذا كانت تحتاج إليه للبيت أم لا، لذلك أنصح السيدات اللاتي يعانين الإسراف المزمن بعدم التسوق خلال فترة الجوع أو الصيام لأنها قد تشتري الكثير من الأصناف التي لا تحتاج إليها.
كما ترى أن التربية لها عامل كبير جداً، كأن تكون الزوجة تربت على الشراء بلا مبالاة وتعلمت من والدتها هذه العادة، أو أن تكون الزوجة تربت على فقدان أشياء معينة فتحاول أن تؤمن نفسها بكثرة الشراء، أو أن تكون حمى الشراء أصابتها بسبب الفراغ وهي مشكلة تعانيها بيوت كثيرة فالزوج طول الوقت في العمل وهي لا تجد ما تفعله سوى الشراء.
ولكن الدكتورة أميرة الساعي تشدد على أنه من الأفضل للزوج أن يتعامل مع زوجته المسرفة بذكاء فالعنف والقسوة والتهديد لن يؤتي إلا بعواقب وخيمة على علاقتهما.
نحن حقاً في أمس الحاجة إلى نشر «ثقافة التوفير»من أجل تغيير العديد من المفاهيم غير الصحيحة
والأمر نفسه تؤكده الدكتورة نوران فؤاد، استشاري الطب النفسي والعلاقات الزوجية والأسرية، التي تشير من ناحيتها إلى أن هذا الأمر أصبح ظاهرة مرضية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ولم يعد الإسراف في الأطعمة والمشروبات في شهر رمضان المبارك يقتصر ـ مع الأسف ـ على الموسرين؛ بل يشمل الكثير من الأسر غنيها وفقيرها وأصبحت هذه العادة السيئة صفة ملازمة لهذه الأسر.
وتوضح الاستشارية الأسرية، أن استعدادات رمضان لم تعد كما كانت تتعلق بالروحانيات؛ بل استعدادات ومشتريات بكميات كبيرة تحضيراً للولائم التي سيقيمونها، فالعديد من الأسر تعمد إلى الأسواق لشراء ما لذ وطاب من مستلزمات رمضان، بعضهم باقتصاد وفق الحاجة وكثيرون بتبذير يتنافى مع الحكمة التي من أجلها شرع الله الصيام، وتوضح «للأسف أصبح الكثير من الأسر تتكبد مصاريف شرائية باهظة قد تتجاوز ضعف ما تنفقه في الأشهر العادية أو من خلال السلوكيات الغذائية التي تصيب الصائم بسبب إسرافه في تناول الطعام الذي يؤرق جسده من الناحية الصحية والنفسية، وهناك نساء يتباهين بموائدهن ويتفنن بأنواع مختلفة من الأطعمة والشراب ويجعلنها ميداناً للتنافس مع أخريات».
وتطالب د. نوران فؤاد، المجتمعات العربية بنشر «ثقافة التوفير» بين أفرادها، فنحن حقاً في أمس الحاجة إليها من أجل تغيير العديد من المفاهيم غير الصحيحة حول «الاقتصاد والتوفير»، فهي لا تعني البخل على النفس، لكن تعني إدارة الأسرة لدخلها الشخصي بشكل فعال وكفء وألاّ يهدر منه شيء، وهو أمر أصلاً حضتنا عليه الأديان السماوية جميعا.