الإسلام سبق كل التشريعات في حمايتهم.. التنمّر على أصحاب الهمم جريمة يدينها الشرع
لا تزال العديد من البلاد العربية تعاني مشكلة السخرية، أو التنمّر على أصحاب الهمم، أو ذوي الاحتياجات الخاصة، ولا تتوقف المشكلات اليومية الناتجة عن ذلك رغم العقوبات المشددة التي تحملها قوانين بعض البلاد العربية، ضد كل من يمارس سفهاً سلوكياً ضد هؤلاء الذين أوصانا بهم ديننا خيراً، وتفرض علينا كل القيم الإنسانية حمايتهم، وتوفير كل وسائل الرعاية والدعم النفسي والاجتماعي لهم، لكى يعيشوا حياة كريمة، وسط حفاوة الجميع بهم.
لذلك توجّهنا إلى عدد من علماء الشريعة الإسلامية للتعرف إلى حجم عناية الإسلام ورعايته لأصحاب الهمم، والتوصيف الشرعي الصحيح لكل من يسخر منهم، أو يسبب لهم أي أذى، نفسي أو بدني.. وهنا خلاصة ما قاله علماء الإسلام:
التنمّر على أصحاب الهمم.. سفَه سلوكي مدان
البداية مع د. محمد الضويني، وكيل الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء وأستاذ الشريعة الإسلامية، حيث يؤكد أن السخرية، أو التنمر على أصحاب الهمم، أو ذوي الاحتياجات الخاصة، يمثل سفها سلوكياً، مرفوضاً ومداناً في نظر الشرع، وهذا السفه السلوكي يستوجب عقوبات رادعة لكل من يتورط فيه، ولذلك فإن العقوبات التي تحملها التشريعات العربية لمواجهة التنمّر عقوبات شرعية، ومطلوب تشديدها بما يكفل الردع المطلوب.
ضرب الإسلام أروع الأمثلة في توفير الرعاية الكاملة لأصحاب الهمم
وعن حجم عطاء الإسلام لمواجهة التنمّر ضد ذوي الاحتياجات الخاصة، يقول د. الضويني «الإسلام جاء بجملة من المبادئ الأخلاقية والقيم الحضارية التي تعصم النفوس، وتحفظ الأرواح، وقد ضرب الإسلام أروع الأمثلة في توفير الرعاية الكاملة لأصحاب الهمم، والعمل على قضاء حوائجهم، وجعل لهم الأولوية في التمتع بكل الحقوق التي يحصل عليها غيرهم، من دون تمييز».
لذلك يؤكد وكيل الأزهر ضرورة أن تلتزم كل الدول الإسلامية بضمان حقوق الأشخاص ذوى الاحتياجات الخاصة، صحياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وترفيهياً ورياضياً وتعليمياً، وتوفير فرص العمل لهم، وتهيئة المَرافق العامة والبيئة المحيطة بهم، وممارستهم لجميع الحقوق المدنية، ودمجهم مع غيرهم من المواطنين؛ إعمالاً لمبادئ المساواة، والعدالة، وتكافؤ الفرص التي يؤكد عليها الإسلام.
وهنا يشدد د. الضويني على ضرورة أن تكون المؤسسات الإسلامية- دعوية أو تعليمية- قدوة، ومثلاً في توفير الحماية والرعاية لأصحاب الهمم، ودعمهم، وتكريمهم، ويبيّن «الأزهر يولي رعاية خاصة لأصحاب الهمم، ولم يكن هذا الاهتمام بأبناء الأزهر من أصحاب الهمم في جميع مَراحل التعليم الجامعية وقبل الجامعية منّةً، أو تفضلاً؛ وإنما هو واجب تقوم به تلك المؤسسة الإسلامية، عن إيمان ورضى؛ حيث يتجاوز عددهم الأربعة آلاف طالب وطالبة، كما يهتم بشكل خاص بأبنائه كريمي البصر الذين يزيد عددهم على 2000 طالب».
التنمّر على أصحاب الهمم محرم شرعاً
وعن التوصيف الشرعي للتنمر، يؤكد العالم الأزهري أن الإسلام يحرّم كل ما يخلّ بتكريم الإنسان، ولم يفرق بين بني الإنسان لأي سبب، ومن باب أولى أصحاب الهمم، الذين حثت الشريعة على التأدب معهم بآداب الإسلام التي تزرع المحبة والود، وتقطع أسباب الشحناء والحزن، ومن ذلك أنه جعل السخرية والاستهزاء والهمز من المحرمات والكبائر؛ حيث يقولُ اللهُ تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون».
ويضيف «القرآن الكريم يدين كل سلوك يحمل سخرية من أصحاب الهمم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم، ينهى نهياً قاطعاً وعاماً، أن تُتخذ العيوب الخلقية سبباً للتندّر، أو التقليل من شأن أصحابها؛ ولذا كان من الواجب أن يعطى أصحاب الهمم حقوقهم كاملة في المساواة بغيرهم، ليحيوا حياة كريمة قدر الإمكان».
حقوق أصحاب الهمم غير المسلمين
من جانبه، يشير العالم الأزهري د. نظير عياد، الأمين العالم لمجمع البحوث الإسلامية، إلى حجم الجرم الذي يرتكبه الإنسان الذي يتنمّر على ذوي الاحتياجات الخاصة، ويصف هذا السلوك بالقبيح والمرفوض، دينياً وإنسانياً، ويشرح «لسنا في حاجة لنؤكد أن الإسلام اهتم بذوي الاحتياجات الخاصة اهتماماً كبيراً؛ حيث ورد في القرآن الكريم ذكر لعدد كثير من صور الإعاقة الشائعة في الناس، كما تناول رسولنا العظيم، صلّى الله عليه وسلّم، شأن هذه الفئة في الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، وكل توجيهات ووصايا الرسول تؤكد ضرورة رعايتهم، واتخاذ ما يلزم لحماية كرامتهم الإنسانية، والتعامل معهم برفق، وإنسانية، ورحمة.
ومن هنا كان اهتمام أحكام الشريعة الإسلامية بالضعفاء، وذوي الاحتياجات الخاصة، وهذا الاهتمام يرقى إلى أعظم درجات الاهتمام وأسماها؛ حيث حثت النصوص الشرعية أبناء المجتمع على وجوب رعايتهم، والوقوف بجانبهم ليحيوا حياة كريمة».
ويضيف «ومن مظاهر اهتمام الشريعة الإسلامية بذوي الاحتياجات الخاصة، أنها جرّمت كل تنمّر ضدهم، أياً كانت عقيدتهم، فلا يجوز لمسلم أن يتنمّر على أحد من هؤلاء يدين بدِين آخر، أو حتى لو كان من دون دين، فهذا السلوك إنسانياً مرفوض ومدان، ومن مظاهر عظَمة شريعتنا الإسلامية أنها لم تفرّق في الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة بين المسلمين، وغيرهم؛ بل ساوت بين الجميع، والشواهد على ذلك كثيرة؛ وقد سجل التاريخ اهتمام خلفاء المسلمين بذوي الاحتياجات الخاصة، سواء من المسلمين أو غيرهم، وأعانوهم، وحفظوا لهم حقوقهم».
السخرية منهم تستوجب العقاب التعزيري، وهو عقاب يتنوع حسب حجم الجرم الذي يرتكبه المتنمّر
كما يوضح د. عياد أن الإسلام لم يكتفِ بتوصيف التنمّر، وتحريمه، بل ألزم المجتمع بحماية حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث دعا كل أفراد المجتمع إلى تحمّل المسؤولية المجتمعية تجاههم، كما قامت شريعتنا الغراء بتخفيف بعض الواجبات عنهم.
وهنا يشدّد الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، على ضرورة إبراز الإدانة الشرعية لكل سلوك يحتوي على تنمّر، ويقول «الإسلام قدّم رعاية شاملة لأصحاب الاحتياجات الخاصة.. والسخرية منهم تستوجب العقاب التعزيري، وهو عقاب يتنوع حسب حجم الجرم الذي يرتكبه المتنمّر».
وأوضح أن احترام إنسانية البشر أمر واجب، والتنمّر سلوك مرفوض، ومحرّم شرعاً، لأنه يمثل أبرز أشكال الإيذاء النفسي، والإسلام حرّم الإيذاء والاعتداء ولو بكلمة، أو نظرة، والله عز وجل يقول: «وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»، وسيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، والضرر الذي وجّه الإسلام بإزالته ليس الجسدي فقط، وإنما وجّه كذلك بإزالة الضرر النفسي الذي قد يكون أقسى، وأبعد أثراً من الجسدي.
التنمّر على أصحاب الهمم إيذاء نفسي قاسٍ
من جانبها، شددت دار الإفتاء المصرية على ضرورة مواجهة المجتمعات العربية لكل صور التنمّر، لما تحتوي عليه من إيذاء نفسي يعد أقسى من الإيذاء البدني.. وقالت في فتوى رسمية لها «إن التنمّر بجميع صوره مذموم شرعاً، ومجرّم قانوناً؛ لما يشتمل عليه من الإيذاء والضرر الـمُحَرَّمين، إضافة لخطورته على الأمن المجتمعي من حيث كونه جريمة».
وأوضحت دار الإفتاء أن التنمّر سلوك عدواني يهدف للإضرار بشخص آخر عمداً؛ سواء كان العدوان جسدياً، أو نفسياً؛ وهو بهذا الوصف عمل محرّم شرعاً، ويدل على خسّة صاحبه، وقلة مروءته؛ لأن الشريعة الإسلامية حرّمت الإيذاء بكل صوره وأشكاله؛ قال تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً»، ويقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إن دِماءكم وأَموالَكم وأَعراضَكم عليكم حَرامٌ كحُرمةِ يَومِكم هذا في بَلَدِكم هذا في شَهرِكم هذا».
وأشارت الإفتاء المصرية إلى أن التنمّر يشتمل على جملة من الإيذاءات النفسية أو الجسدية الحاصلة من الـمتنمِّر، والتي يحصل بسببها ضرر على الـمُتنمَّر عليه؛ وقد جاءت الشريعة الإسلامية لحماية الإنسان من كل ما يمكن أن يصيبه بالضرر؛ ففي الحديث الشريف يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»؛ فحرّمت الشريعة عليه كل ما يضره، وجرّمت إيصال الضرر إليه بشتى الوسائل؛ والإيذاء والاعتداء الحاصل من الـمُتَنَمِّر تجاه الآخر هو من الإضرار بالغير الممنوع شرعاً.
وأضافت: التنمّر يشتمل على السخرية واللمز؛ وهي أفعال مذمومة؛ جاء الشرع الشريف بالنهي عنها صراحة في القرآن الكريم بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».
ولفتت الفتوى إلى أن التنمّر قد يشتمل على السّب، وبذاءة اللسان، وهو محرّم شرعاً، وموجِب لفسق صاحبه؛ ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْر».
مسؤولية المؤسسات الإسلامية في حماية أصحاب الهمم
ويشدد د. أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، على ضرورة أن تكثف المؤسسات الإسلامية- الدعوية والإفتائية- من حملاتها لمواجهة سخف السخرية من أصحاب الهمم؛ حيث شاع هذا السلوك المرفوض والمدان شرعاً بين الشباب، ربما على سبيل المزاح، وربما نتيجة سوء التربية، وهو ما ينبغي مواجهته من خلال خطباء المساجد، والبرامج، والفتاوى الدينية. كما ينبغي أن يكون لمناهج التعليم العربية دور في نشر ثقافة التعامل الراقي مع أصحاب الاحتياجات الخاصة.
ويضيف «الإسلام حرّم المعايرة والمعايبة على أصحاب الهمم، وهذا ما ينبغي أن يدركه كل أبنائنا، وما ينبغي أن نربّيهم عليه، فليس هناك أفضل من جبر خاطر شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، والتعامل معه بإنسانية، وقضاء حاجته، ومعاونته على أن يعيش كريماً وسط الناس».
ويثمّن أستاذ الشريعة الإسلامية الأزهري تشديد عقوبة التنمّر على الأشخاص اصحاب الهمم في مصر، حيث قام مجلس النواب المصري بتعديل قانون «الأشخاص أصحاب الهمم» من خلال تغليظ عقوبة التنمّر ضدهم، لتصل إلى الحبس 5 سنوات، لتلقي الضوء مجدداً على هذه الظاهرة السلبية، وضرورة حماية أصحاب الهمم والمجتمع عموماً منها.
أعمال فنية تتضمن مشاهد سخرية من أصحاب الهمم
وينتهي د. أحمد كريمة إلى تأكيد أن التنمّر سلوك منبوذ شرعاً، ويتنافى مع الآداب، والأخلاق الإسلامية الفاضلة التي يربّينا عليها ديننا، ولذلك يجب مواجهة فاعله، مجتمعياً وإعلامياً ودينياً «من المؤسف أن تتضمن بعض الأعمال الفنية مشاهد تحمل سخرية من أصحاب الهمم والأقزام لإضحاك الناس، وهذا السلوك يدمّر كل الجهود التي تبذل، تربوياً وأخلاقياً ودينياً للارتقاء بأسلوب التعامل مع أصحاب الهمم، وينبغي أن يتوقف هذا السخف فوراً، وتحذف هذه المشاهد من كل الأعمال الفنية، قديمة كانت، أو حديثة. إذ إن كل مؤسسات المجتمع المعنية بضبط السلوك العام مطالبة بمواجهة التنمّر، خاصة أن أصحاب الهمم، أو ذوي الاحتياجات الخاصة في العديد من مجتمعاتنا يعانون هذا السلوك المدان، شرعاً وعرفاً وقانوناً. ومن هنا فواجب المجتمع، بكل أفراده ومؤسساته، أن يكفل لهؤلاء الحياة الآمنة بعيداً عن أي إيذاء بدني أو نفسي».
كما يؤكد د. كريمة ضرورة الاهتمام بالتربية الأسرية والتربية المدرسية التي تواجه كل صور وأشكال التنمر، وتدعم السلوك الراقي المتحضر للإنسان في تعامله مع الآخرين «مهمة النظام التربوي أن يقدم الصورة الصحيحة للتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة.. كما أن مهمة الثقافة الدينية الصحيحة أن توجه سلوك الإنسان للأفضل. وكل إنسان ملتزم، دينياً وأخلاقياً، مطالب بأن يترجم تعاليم وأخلاق دينه في سلوكه اليومي، وكلما كان الإنسان راقياً متحضراً في تعامله مع خلق الله، بخاصة الضعفاء منهم، تجسدت فيه الأخلاق والقيم الإسلامية الرفيعة».
اقرأ أيضاً:
- كيف تكتشف علامات التنمّر في المدرسة على طفلك؟
- نصائح ضرورية للتعامل مع الطفل من أصحاب الهمم