جلست هيلانة تصلي في شقتها فوق السطوح، شقة صغيرة من غرفتين وسطح واسع، كان في ما مضى يشرف على مرفأ بيروت قبل أن يرتفع مبنى يعلوه بطابق واحد أمامه. سكنت في هذا المنزل مذ نزلت من قريتها في الجبل، في مستهل خمسينات القرن الماضي، لتتزوج من ابن قريتها يوسف. كان يوسف قد هجر القرية من قبلها مع أمه وأبيه وشقيقتيه الخياطتين ليعملوا جميعاً في بيروت.
عاشت مع حميها وحماتها وبنتي حميها وزوجها في هذا المنزل المتواضع؛ حيث أفردت للعروسين الحجرة الكبيرة ونام من تبقى من الأسرة في الحجرة الأخرى. هيلانة امرأة صبور، وديعة الطباع وطيبة الخلق، لم يسمع لها صوت في الحي ولم يعلُ يوماً صراخ أي من ساكني هذا البيت الصغير إلا عندما يبدأ أحد أطفالهم بالعفرتة أو كانت يد الموت تطال واحداً منهم.
وانصرفت هيلانة إلى إنجاب الأطفال، وانصرف يوسف إلى وظيفته في شركة الكهرباء وإلى هوايته في ضرب آلة العود، فيما خاطت شقيقته الكبرى الفساتين لنساء الحي وخاطت شقيقته الصغرى الستائر وأغطية الأثاث للعرسان والعرائس. أنجبت هيلانة ستة أطفال، طفل كل سنتين أو ثلاث سنوات على الأكثر.
طلب يوسف من صاحب المبنى السماح له أن يقيم على نفقته حجرة إضافية على السطح، لكن صاحب المبنى رفض، متذرعاً بالقوانين، ولربما كانت القوانين هي سبب رفضه بحق. فقام يوسف ونصب خيمة، جدرانها من قماش على أوتاد من خشب وسقفها من «توتياء»، ونصب في وسط الخيمة أول جهاز تلفزيون في الحي تحلقت الأسرة والجيران من حوله، وكان هذا في أواخر الخمسينات.
ومرت الأيام... علا الصراخ من البيت الصغير للمرة الأولى حين توفيت الابنة البكر لهيلانة ويوسف وهي لم تكمل سنتها الثالثة. وعلا الصراخ للمرة الثانية حين توفي والد يوسف، ثم والدة يوسف، ثم حين توفي يوسف نفسه. تزوجت الابنة الثانية، تزوج الابن البكر، توفيت العمة الأولى، تزوجت الابنة الثالثة، تبعتها الرابعة، توفيت العمة الثانية، تزوج الابن الأصغر... ومرت الحياة. ترك جميعهم هذا البيت الصغير، إما إلى مقابر القرية وإما إلى منازل الزوجية وبقيت هيلانة وحدها.
جلست ذات الثمانية والثمانين عاماً في حجرتها تصلي؛ حيث تقضي معظم أوقاتها الآن في الصلاة. سمعت صوت انفجار. قامت إلى السطح لتتفقد ما حصل، فبادرها عصف رماها أمتاراً إلى الخلف ودويٌّ لم تسمع مثله طوال الحرب الأهلية التي عاشتها مع أسرتها في هذا البيت الصغير. فقدت وعيها للحظات.. لدقائق.. لساعات.. لم تعد تدري. ولكن حين فتحت عينيها ونظرت من حولها لم ترَ جدران البيت ولا أوتاد الخيمة. بيتها الصغير قد تبخر، تحوّل إلى ركام وسوِّي بالأرض. لو لم تخرج منه إلى السطح لكانت قضت تحت البيت الذي قضت فيه حياتها. لم تفهم. قال لها ابنها حين جاء يتفقدها: «انفجر مرفأ بيروت». فلم تفهم مرة أخرى ومعها كثيرون لم يفهموا.
للتبرع للبنان اضغط هنا